لا أدرى هل كانت تلك المناقشة التي كنت عليها شاهد عيان الأسبوع الماضي.. دكتوراة في المواطنة والسياسة والمصطلحات التي تستعجم كثيرا على رجل الشارع ولا يفهمها سوي النخبة؟ أم احتفالية ورد كست باقاته ممرات كلية الإقتصاد والعلوم السياسة الموصلة لقاعة ساويرس حيث تجلس الطالبة هبه رؤوف عزت مواليد العام 1965 على كرسي وفي مقدمتها لابتوب تعرض منه فحوى رسالتها، وبجوارها منصة مناقشة اصطف عليها الجهابذة من الأساتذة والدكاترة د/ حورية مجاهد ود.سيف الدين عبد الفتاح ود.على ليلة؟
الإجابة ببساطة هي أن عاشقة الورد حصلت على الدكتوراة أخيراً وبعد طول انتظار من جميع محبيها.. دكتوراة الفلسفة في العلوم السياسية مع مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطباعة الرسالة على نفقة الجامعة، وتبادلها مع الجامعات العربية والتي كانت بعنوان "المواطنة.. دراسة لتطور المفهوم في الفكر الليبرالي".
فعلى مدى 4 ساعات متواصلة احتشد جمهور النخبة من المهتمين، والأكاديميين، والسياسيين، والإعلاميين، والأساتذة من مختلف التخصصات، بالإضافة إلى عدد غير قليل من طلبة الكلية وطالباتها في قاعة المناقشة في مشهد وصفته الدكتورة حورية بأنه نادر الحدوث في مناقشة رسائل جامعية صعبة كهذه بالكلية.. فعلقت بالقول: "إنها رسالة حب في رسالة ينتظر الجميع حصول صاحبتها على درجتها العلمية وكأن الجميع عائلتها"!.
نوران وإيمان ابنتا هبه رؤوف تعلقت عيونهن بالأم الطالبة التي "يعصرها" الدكاترة ولكنك تستطيع برغم ذلك أن تقول: ذاك الشبل من ذاك الأسد.. فالثقة الجميلة بالنفس والإتزان وجمال العلم وخفة الظل جمعتهن جميعاً.
أما الأم "الحاجة فوقية" فقد كانت وادعة كعادتها.. ترسانة دعاء وكيان مساند دائم لهبه وكعادتها أيضاً.
بدت المناقشة منصفة وقوية ولكن في ود غريب وصفه الدكتور على ليلة أستاذ الإجتماع مداعباً الباحثة: "إنه تأثير الهيمنة الفكرية التي تمارسها هبه على من يقترب منها والتي أحاول أنا شخصياُ أن أنجو منها على الأقل لمصلحة المناقشة والبحث العلمي وطقوس المناقشة!".
وأضاف واصفاً الرسالة بقوله: إنه بحث متماسك المعمار إلى حد بعيد يغلب عليه الطابع التجريدي الصعب فيما تدفقت في الوقت نفسه –على حد وصفه– أفكار الباحثة بغزاره في حيوية وقوة الشباب فعندما تتأمل البحث تجده عبارة عن تقاطع 3 خطوط هي: باحث متميز جاد وأستاذ مشرف مقتدر أما الضلع الثالث فهو قضية تعيش الآن حالة أزمة، تصادف معها أن العلوم الاجتماعية لم تعد تستند على ما يسمى بالحقائق الثابتة، فالحقائق الآن متدفقة في حالة من السيولة تحتاج إلى باحث جاد يستطيع الإمساك بها.
أما الدكتور عبد الفتاح سيف الدين فقد تميزت مناقشته بخفة دم واضحة خففت ما يمكن أن يشوب هذه الأجواء الصارمة من جدية وتوتر.. ابتدأ د.سيف بالقول: إننا اليوم نشهد مولد منظرة في رسالة تعبر عن جهد تنظيري غاية في الأهمية وعلامة بارزة ومهمة في تاريخ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. فقد أرهقني أنا شخصياً المعمار المسبوك للرسالة والجرعة التنظيرية الدسمة التي أضافت إلى معنى العلوم السياسية حيث استطاعت الباحثة رغم كثرة المراجع –386 مرجع أجنبي وخمسة مراجع عربية – أن تهيمن على مادتها قبل أن تهيمن على قرائها.
وفى قفشة باسمة تحدث الدكتور عبد الفتاح قائلا: لقد توقفت قليلا في مقدمتك التي أشرت فيها إلى أن الباحثة إنما أرادت بطول مدة البحث منذ التسجيل عام 93 عدم التعجل حتى تظهر الرسالة في صورة لائقة!
وأرجو يا هبه ألا تكوني قدوة للباحثين في التريث "12 عاماً".. ولولا أنني أعرف أنك ناشطة وباحثة كثيرة الحركة والبحث والمشاركة في المؤتمرات والفعاليات العربية والعالمية لما تفهمت الأمر! ثم استطرد قائلاً: ولكن من كرم الله عليك أن موضوع المناقشة "المواطنة" لم تنقضي أهميته مع الأيام وإنما حدث العكس تماماً بأن ازداد سخونة وأهمية.
ووسط خضم مناقشة اتسمت بهذه الروعة لم يكن هناك مفر أبداً من توغلات في المصطلحات والمفاهيم تجعل غير المتخصص يسرح بعيداً.. ربما –معذرة– لعدم فهم ما يدور، أو ربما –عذراً أيضاً- احساساً بالملل، أو غيرها من الأسباب ولا أدري من أي فئة أنا سرحت بعيداً مع قسمات وجه هبه في رحلة تأمل رجعت بي 15 عاماً إلى الوراء، فقد شاءت الأقدار أن أكون وقتها إحدى طالبات كلية الإعلام جامعة القاهرة اللاتي جذبتهن العبقرية الفكرية لهبه رؤوف في أوائل التسعينات، فعندما كانت تناظر نوال السعداوي في موضوعات النسوية كنا نتسابق للوصول إلى قاعات المناظرة قبل موعدها.
قارب النجاة الذي ألقته هبه رؤوف لجيلي ومن تتالى بعدي من الأجيال مثّل علامة فارقة في حياتنا وتوجهاتنا جميعاً، وكنزاً كنّا نفتش عنه في ظل التيه الفكري والثقافي والمجتمعي الذي يحيط بنا. فمن خلال موضوع النسوية طلت على عقولنا في رفض لواقع المرأة، بما في ذلك ما تبشّر به بعض الرؤى الإسلامية، والتي تجمّد حركة المرأة أو تعزلها وتحيطها بالأوهام الذكورية، فهي تدعو إلى قوامة حقيقية، نابعة من العدل، ومنها تؤسس لمفهوم المساواة الحقيقية.
تخيلت نفسي بعدها أحدثها في حديث ذكريات داخلي: هل تذكرين يوم رحلتنا إلى القناطر مع الجامعة وكنت وقتها المعيدة التي تتدفق حيوية وحركة فكرية وبدنية ولا زلت ؟ وجلسات المناقشة والجدل في حجرة الصالون ومسجد الكلية؟ أم هل تذكرين يوم جئت إليك بصور حفل خطوبتي؟ لا زلت أذكر هديتك الذهبية.
بل هل تذكرين يوم استشرتك في توجهاتي العملية وأنت أيضاً الكاتبة المميزة وصاحبة الاهتمامات الإعلامية.. فانضممت إلى فريق التحرير لمدة سنة في جريدة الشعب حيث أنشأت صفحة بعنوان "صوت النساء" أجريت خلالها للصفحة عددا من التحقيقات والحوارات؟ أم هل تذكرين مكالمتك التليفونية الودوة لتوديعي في سفري إلى الكويت واتفاقنا أن أدرس امكانية أن أكون مراسلة موقع اسلام أونلاين من الكويت وكنتِ في بداية تأسيسه فقلت لك: لا أريد، لماذا لا نبحث عمن هو أكفأ للقيام بالمهمة فقلت لي في حسم: نعم هو "أنت" وبانتظار شغلك؟!
كنت أتلمس أخبارك من بعيد وأتابع ما يصل إلى يدي وعيني من منجزات فكرية وأدبية وبقيت أنت كما أنت، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة والكاتبة والمفكرة والناشطة النسائية التي لا تعيش بانتاجها الأكاديمي والفكري في برج عاجي وإنما تقتحم واقع الحياة العامة بشكل غير عادي فأسست لرابطة الأمهات المصريات التي يراد لها أن تؤسس عملياً لدور فاعل للأمهات في الحياة المدنية، وحركة "سجين" المعنية بالدفاع عن السجناء السياسيين، وابتدعت فيها أسلوباً جديداً في ربط القضايا السياسية بالمواطن العام وبحياته العادية، إلى اهتماماتك الأدبية.
أنت كما أنت.. مسلمة معاصرة، تجتهد بفكرها المتنوّر في شؤون المرأة والرجل معا، ولا تقبل رأياً إلا عن قناعة وجدال علمي لا يخدشه الانسلاخ عن الانتماء الديني، وتمارس شراكتها في المجتمع بجدارةٍ وبمبادرات قيادية أيضاً. وإلى جانب ذلك كله وقبله أم لثلاثة من الأطفال وزوجة.
وعدت من تأملاتي إلى قاعة المناقشة حيث خاتمة الدكتور سيف التي سبقت المداولة، وصفق لها الجمهور طويلاً: "حق لهبه أن تفخر بعملها فقد جمعت فأوعت ونقدت فأحسنت وحللت فأمعنت ونظمت فأحسنت ونظرت فتمكنت وأظنها في رسالتها تعلمت وعلمت.. وأنا ممن تعلموا" والتي جعلت دموع الكثيرين أيضاً تتساقط مع التصفيق "دموع الفرح طبعا"!
تحية للدكتورة هبه الإنسان والأم لـ نوران وإيمان وعلى، وأستاذتي التي شرفت بالقرب من عقلها "كمفكرة وباحثة متألقة" وقلبها "كداعية متميزة" ووجهها "كإنسان قريب يرشد وينصح" فتتلمذت على يديها. وكل التهاني لنا جميعاً بمولد عالمة ومنظرة مسلمة، مبدعة، مجددة.. ساهمت وستساهم بشكل كبير في تشكيل وعي الكثيرات والكثيرين أيضاً.. رجالاً ونساءاً.. تحمل بتألقها الفكري وانجازها المتواصل شعلة نور وخلاص لمجتمعاتنا وأمتنا بأسرها.. وتؤمن أن الأمل كبيروالخير قادم إن شاء الله.. ونحن أيضاً!
اقرأ أيضاً:
رجل في حياتي / سيد الرجالة كمان وكمان / محمد وشهد.. تعالى لي يا أما!