مخربشات دستورية 6: سقوط طاغية
لم يؤد سقوط صدقي إلى انتهاء الانقلاب الدستوري الأخطر والأطول في تاريخ مصر في الحقبة الليبرالية، بل استمرت نفس السياسة المعادية للدستور وللشعب، على يد حكومة حزب "الشعب" برئاسة الرئيس الجديد للحزب وللحكومة عبد الفتاح يحيي، واستمر دستور 1930 الذي سلب من الشعب حقوقه ساريا، وكانت لحكومة عبد الفتاح باشا يحيي إبداعاتها المنبئة عن توجهاتها، لقد ابتكر الباشا وسيلة جديدة يؤكد بها الولاء من طاغية صغير للملك، فقد أقرت الوزارة مبدأ جديدا غير مسبوق في النظام الدستوري المصري، أن يؤدي الوزراء يمين الولاء للملك.
وفي ظل حكومة عبد الفتاح باشا يحيي تواصلت الانتهاكات للحريات العامة، واستمرت المعارضة السياسية والشعبية للحكومة الجديدة، تلك الحكومة التي حاولت أن تجمل وجهها بالتحقيق في فساد عهد صدقي، رغم أن رجلها هم أنفسهم رجال صدقي، وحزبهم نفس الحزب المصطنع الذي حمل اسم الشعب زورا وبهتانا، حاولت أن تجمل وجهها بالتضحية ببعض رجال الحكومة السابقة، في محاولة لتخفيف حدة المعارضة.
بعد ثلاثة أشهر من تشكيل الحكومة دخلت في صدام مع المحامين عندما أصدرت لائحة جديدة للمحاماة، نصت على استبعاد من وقعت عليه عقوبة تأديبية من المحامين من عضوية مجلس النقابة، وكان القصد من ذلك استبعاد الخصوم السياسيين لنظام الانقلاب الدستوري من عضوية مجلس النقابة، وقد رفض المحامون اللائحة وناضلوا من أجل إسقاطها إلى أن تحقق لهم ذلك.
كان التعديل الوزاري مجرد محاولة لامتصاص جزء من الغضب الشعبي بإبعاد صدقي عدو الشعب الذي أصبح ورقة محروقة تشكل عبء على الملك والإنجليز ومصالحهما أكثر مما تفيدهما، وقد أكد عبد الفتاح باشا يحيي أن وزارته تستند إلى دستور 30 عندما قال في رسالته إلى الملك فؤاد بعد تكليفه بالوزارة: "كان لي شرف الاشتراك في وضع أسس النظام الحاضر والسهر على تنفيذه حتى استقر نهائيا... وستسير وزارتي بالبلاد في ظل جلالتكم في الطريق نفسه مسترشدة بحكمة جلالتكم السامية".
لكن كل الأحوال كان سقوط صدقي خطوة على الطريق، طريق استعادة الشعب لحريته وحقوقه، فقد كان الملك والإنجليز وصدقي نفسه يخططون لبقاء حكمه وانقلابه عشر سنوات. وفي خريف 1934 مرض الملك فؤاد، وشعر الإنجليز بأن رحيل فؤاد أصبح قريبا، وإنهم أمام حكومة ضعيفة لا تملك سندا شعبيا، فتدخلوا في شئون البلاد بشكل فج ومهين، للملك ولحكومته.
ويبدو أن فؤاد عندما شعر باقتراب أجله وبعد أن تأكد له فشل حكومة عبد الفتاح يحيي في إزالة الاحتقان، قرر أن يسعى في اتجاه إرضاء الشعب، فجاءت الخطوة الثانية إلى الأمام عندما كلف الملك فؤاد توفيق نسيم باشا بتشكيل الوزارة في محاولة الاقتراب خطوة أخرى نحو الشعب والمعارضة، كما أصدر مرسوما ملكيا بإلغاء دستور 30 المرفوض شعبيا، وحل البرلمان الذي أتت به انتخابات صدقي المزورة، إلا أنه لم يعد العمل بدستور 1923، بل نقل اختصاصات البرلمان إلى شخصه.
إلا أن نوايا فؤاد لم تكن خالصة لوجه الله والوطن، فقد كان يعتقد أن خطوته ستؤدي لشق صفوف المعارضين، وقد أثمرت المحاولة بالفعل على هذا الصعيد، انفضت الجبهة القومية التي تشكلت من الوفد والأحرار الدستوريين، وشهد الوفد نفسه انقساما حادا، فقد أيدت قيادة الوفد حكومة نسيم تأييدا ضمنيا، بينما رفضت بعض الفصائل الأكثر ثباتا في المعارضة أن تؤيد الحكومة، وكانت صحيفة روزاليوسف وعلى رأسها السيدة روزاليوسف والكاتب الكبير عباس محمود العقاد من أشد المعارضين لخط المهادنة من داخل حزب الوفد وصحافته، حيث رأوا أن المعارضة ينبغي أن تستمر حتى يعود دستور 23، واتخذ بعض المفكرين الليبراليين نفس الموقف، وكان من أبرزهم الدكتور محمود عزمي.
وشهدت جبهة الوفد ومناصريه انقساما أدى إلى استقالة العقاد من الوفد بعد أن كتب في إحدى مقالاته "إنما كنا وفديين لأننا وطنيون، ولم نكن وطنيين لأننا وفديون"، وإلى إعلان قيادة الوفد أن روزاليوسف ـ المجلة ـ لم تعد من الصحف التي تعبر عن الوفد، بعد أن رفضت روزاليوسف ـ الكاتبة والفنانة ـ الخضوع لتهديدات مكرم عبيد باشا.
وخلال خريف عام 1935 بلغ الانقسام أشده في صفوف المعارضة رغم عدم ظهور بوادر حقيقية لعودة دستور 1923، لكن الإنقاذ جاء من خارج مصر، فقد أدى تصريح أدلى به السير صمويل هور وزير خارجية بريطانيا، واعتبره المصريون تدخلا وقحا في الشئون الداخلية لمصر، أدى التصريح إلى تفجير الأوضاع وعودة الاحتقان خاصة بعد أن تقبلت حكومة نسيم التصريح ولم تعترض عليه، وكانت خلاصة التصريح أن دستور 30 لم يكن مناسبا لمصر كما أن عودة دستور 23 غير ملائمة. ومن هذا التصريح انفجرت ثورة الشباب.
ويتبع >>>>: مخربشات دستورية 8: ثورة الشباب
واقرأ أيضاً:
الكاتب والكاهن والقائد