"آه من وحشة الطريق، وقلة الزاد، وتخلي الأصحاب" قالها أحدهم يصف حسرة كل سائر يستشعر الوحشة والوحدة والغربة، وهي أحاسيس تزداد وطأتها حين تتواتر الشواهد وتتوالى الخبرات مؤكدة غياب العقل والحكمة، وغلبة العشوائية والاستهتار، وخداع الذات والآخرين!! وحين يعلو الألم مع زيادة مساحة الرؤية واتساع المعرفة وعمق التجربة!
تأملات وأفكار وهواجس لا تتوقف عن غزو الدماغ في الحل والترحال، واستطلاع الأحوال، ومن يومين زارني في الجامعة شاب من زوار مجانين، وتحدثنا كثير عن قصور التفاعل الاجتماعي والقدرة الإنسانية على التواصل مع الآخرين، وهي آفة منتشرة بكثرة، وبخاصة في أوساط الطبقات الوسطى، وتزداد في المجتمعات الأكثر انغلاقا، وفي هذه وتلك فإن إعاقات فادحة تكتنف مهارات الإنصات والتقييم والتصنيف وتحديد الموقف والرد الملائم، والتعامل اللائق في الظروف والأوضاع التي تواجه الإنسان، وبخاصة في مقتبل حياته العملية في تعامله مع البشر والأحداث!!
معظمنا من أبناء الطبقة الوسطى، تلك الطبقة المضغوطة التائهة عربيا، فلا هي بالمقتدرة، فتوفر لأبنائها فرصة الاحتكاك المحلي والعالمي عبر دوائر التفاعل الاجتماعي العادية، وبالسفر أثناء العطلات مثلا، وقيم الطبقات الأعلى تميل إلى الانفتاح أكثر مما يتيح مدى أكبر، ومناسبات متكررة لمقابلة أفراد من الجنس الآخر، وأفراد من ثقافات أخرى عبر السياحة، أو التبادل الطلابي مثلا، ولا هي معدمة يضرب أبناؤها في الأرض!
المعتاد أننا نغفل عن أهمية هذه الأجواء في تنمية شخصية الإنسان، ومهارات تفاعله، بل وأحيانا ما ننظر بإدانة إلى كل احتكاك سواء بين ذكر وأنثى، أو مع أجانب من بيئات أخرى، أو مع أي أخر مختلف، ويبقى الشاب، وتبقى الفتاة في محبس محدود المساحة والأفق والتنويعات والخبرات، وتكون الصدمة مروعة حين يحين أوان الخروج إلى ملاقاة الحياة، وهي تبدأ مع العمل النظامي في الوظيفة بالنسبة للشاب غالبا-، وفي مناسبة الزواج لدى الفتيات!!
أكاد أجن!! هل يتصور عاقلٌ أن أول تجربة تعامل حقيقي أو تعرضي للحياة يتأخر في حياة أولادنا إلى حين الوظيفة أو الزواج؟! وما هي النتائج المتوقعة لهذا الوضع؟!
ثم نحن نستغرب ونندهش من تصاعد معدلات الطلاق، ومن تعثر جوانب كثيرة في حياتنا اليومية، ونستغرب ونندهش من ارتفاع معدلات الصراعات اليوميةـ التافهة غالبا في أصلها ـ بين العاملين في أية مصلحة أو مؤسسة خاصة أو حكومية على امتداد العالم العربي، وننسى أو نجهل أن مهارة فهم الآخرين والتعامل معهم هي فن، وهي معرفة، ومن لديه نوع من الأمية في هذا المجال حتما سيتخبط ويترنح ويتعثر ويفشل!!
مبدأ حبس الولد، والبنت أكثر طبعا، فكرة الحبس تحت دعوى الحماية من الفساد والفتن، وسوء الأصحاب... إلخ الهواجس والمخاوف المشروعة في ذهن وقلب كل عائلة، فكرة الحبس هذه تؤدي إلى كوارث إنسانية بشعة، لأن مهارة التفاعل والتفاهم وإدارة الذات والعلاقات لا يمكن اكتسابها إلا بتوجيه وإرشاد ينقل المعرفة الخاصة بهذه المهارات، إضافة إلى نسيج ومحيط تفاعل اجتماعي حقيقي وحي، وأضحك حتى البكاء من برامج تطوير وإدارة الذات، والعلاقات بالآخرين، والتي صارت موضة في الخليج وغيره، وصارت بيزنس هام لأصحابه، وصارت تطرح كل يوم عناوين جديدة، بينما لا يوجد مجتمع حقيقي، بمعنى بيئة تفاعل مفتوحة بين البشر هناك!!
أضحك حتى البكاء على من يتدربون على استخدام أدوات وأساليب بينما مضمار التجريب والتطبيق غائب تماما!! في أي قطر عربي توجد علاقات حقيقية وناضجة وتفاعل حي بين الرجال والنساء مثلا؟! أو بين العرب والهنود، أو الأوربيين؟!
الأجنبي يحضر لبلادنا ويرحل، وهو لم يأخذ فرصة تفاعل حقيقية، ولا فكرة حقيقية عن ثقافتنا، وعن أفكارنا، ولا حتى عن مشكلاتنا!! يرانا من موقع السائح، أو الموظف، أو الفريسة، كما ننظر غالبا لكل أوربية جاءت تزورنا، أو تعمل في بلادنا بوصفها صيدا سهلا، أو مشروع علاقة جنسية واعدة، دون بقية الأبعاد الممكنة والمتاحة للتفاعل بين البشر!!
ما قيمة أن تتدرب على كرة القدم في بلاد لا فيها ملاعب، ولا تحترم قوانين اللعبة، وسيقان الأغلبية فيها مشلولة أو مقطوعة؟! ثم الضحك حتى البكاء حين ترشد هذه الدورات إلى تطبيق هذه البرامج في العلاقة بين الزوجين أو مع الأولاد في مجتمعات عربية ما زالت تنظر للمرأة بشكل جاهلي متخلف، ونظرة المرأة لنفسها متدينة، أو عشوائية متناقضة!
هذه الإعاقات جميعا تصل بنا إلى النتيجة المروعة التي نحن بصددها، نتجرعها ونكتوي بنارها: فشل عريض في التواصل الإنساني تظهر تجلياته في أماكن العمل، وعلاقات الجنسين، وحتى في كل ثانية وخطوة، أو كلمة بين اثنين يمكن أن تشعل حربا تسيل فيها دماء، وتتطاير أشلاء، وما يحصل في مجتمعات عربية مثل العراق ولبنان وفلسطين ليس بعيدا عن غياب مهارات التفاعل والحوار والتفاوض في مستوياتها البسيطة اليومية، وفي المستويات الأعلى والأوسع!!!
كان محدثي من أبناء الطبقة الوسطى التي تحمي أبناءها بالحبس فيتأخر نمو ذواتهم ومهارات تواصلهم، ويظل ذكاؤهم الاجتماعي والعاطفي طفوليا حتى تحصل صدمة الزواج أو العمل على خلاف ما يحصل غالبا في الطبقة العليا، وحتى الطبقات الفقيرة التي تترك أبناءها يأكلون من حشائش الأرض فيتفاعلون ويكونون أنضج، ولو كانوا مشوهين من جوانب أخرى!!
فوجئت به بعد كل هذا الكلام والتحليل يقول لي: خالتي تقول لي: لماذا لا تتزوج، ولا ينقصك شيء، وظيفة جيده ومستقرة، وراتب، ولعلها أيضا تقصد أنه شاب في ريعان شبابه، ورغبته الجنسية متأججة، ولا حل للعفاف إلا بالزواج!!!
وهذه هي مقدمات كل شاب عربي مقدم على الزواج، بينما هو مجرد كائن مفخخ يحمل من القنابل، والإعاقات، والعاهات النفسية الكثير، وبدلا من أن يتعالج يذهب ليتزوج من فتاة لا تقل عنه إعاقة، والنتيجة متوقعة سلفا، وهذه حياتنا طالما نعتمد في تسييرها على منطق: "قالت خالتي"!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: قارئه متفاعلة.. وردود متأخرة/ على باب الله: محنة العقل العربي