قابلته عبر الأثير الإليكتروني، وتحاورنا سريعا: هو من القدس، وفي القدس يسكن، وأنا الجالس في المعادي أستمع متأهبا للانصراف إلى جدول حياتي اليومي، وفاجأني متحسرا: أعجب للشعب المصري –خير أجناد الأرض- كيف اعتاد الذل، ويستمرئ الهوان، ويرضى بالخنوع، ويقبل بما لا يرضى به بشر!!
قلت له: حنانيك، ولا تتسرع في إصدار الحكم على الصابر المحتسب، على أمة تتعرض لظروف هي أشبع من الاحتلال، وفي حياتها تدابير عسف وكيد ويطحنها بالليل والنهار!! نكبات فقر وتنكيل وخيانة!!
منذ أيام انعقدت ندوة تتساءل: هل الثورة في مصر ممكنة؟!
وكم أسمع نقدا وتشهيرا، وبعضه ممن حولي، وجلدا وتقريعا لهذا المصلوب الدائر في سواقي الضياع، والوهم والخداع، من تكاثرت فوق رأسه المطارق، واجتمعت عليه الخطوب والمصائب، وما من أحد يرشد أو يدعم أو يرفق أو يصون أو يواسي!!
الوعاظ يجلدونه لأنه ليس مؤمنا ولا ملتزما بما فيه الكفاية، والمثقفون يجلدونه لأنه متخلف لا يثور ولا يتحرك لخلع قاهريه أو سارقيه، وكل من يرجو قيامته، وينتظر صحوته ومدده –يجلده لأنه تأخر، ولأنه يبلع ويمرر، ويمضي ويسير متعثرا كاتما حتى يشكواه!! الكل يجلد ولا أحد يعالج الجراح!! والجاهلون يحسبونه لاهيا عابثا، ويرونه يرقص، ولا يعرفون أنها رقصات الألم الذي قد يتلهى عنه بأسمار وأباطيل، أو أخبار النجوم أو الكواكب!!
صديقي الخارج للتو من محبسه بعد احتجاز عبثي صار من طابع الحياة العامة في بلادي، قال لي: وسط أصحاب الجرائم القادمين من القاع، وفي أعماقهم، وجدت إنسانية مطمورة، وفطرة وفوقها ركام، لكنها ما تزال هناك، ووعي ربما لا تجده في متعلم قد تشوه بفعل أسوأ تعليم يمكن أن يتلقاه بشر!!
قال: النخب دائخة ومنعزلة تلعب يرما لها من فتات وهوامش القضايا والجدالات العميقة، وأصحاب المصالح كلهم يقولون: نفسي.. نفسي، والناس الغلابة لا حول لهم ولا قوة ولا أحد يسأل فيهم أو عنهم، والجريمة أحيانا تكون البديل الوحيد للضياع أو العدم!!
مصر كلها معلقة في ساقية ضخمة مثل طواحين الهواء تدور في فراغ، وتتساقط الجثث من الدوار، أو من صدمة الريح، أو من الملل، أو اللاجدوى واللامعنى واللاشيء!!
طواحين الهواء تدور في الخواء، فلا وجود لعدم، ولا قيمة لعدم، ولا طعم ولا لون ولا رائحة للعيش في عدم!! وتجربة التعايش مع العدم، مع الانتهاك اليومي بالإهمال، والإهانة بعدم الاكتراث –على الأقل- وتجربة أن تجد نفسك وحيدا وسط مولد مزدحم، أو سرك بلا نظام، لا أحد يحميك أو يواسيك أو يفئك، أو يدعمك أو يهتم بشأنك، ولأنك ترى أنه هو أيضا منشغل بنفسه وشأنه في الدواهي أو الملاهي، فتسكت، أو لا تحكي إلا للريح وجلساء الريح، وأصدقاء الريح!!
كنت أحرر صفحة أسبوعية –أو نصف صفحة- في الجريدة المستقلة!! ثم توقفت الصفحة في ظروف غامضة!!
في مقالي الأخير –غير المنشور- كتبت: أريد أن أعرف الحالة النفسية لأمة تعيش ضغطا وصدمة لا تتوقف ولا تهدأ، تهديدا يمس حياتها فردا فردا في طعام فاسد، أو كيس دم فاسد، أو دقيق فاسد، أو قطار يطير أو يحترق، أو سلك كهربائي يمكن أن يصعق من يلمسه أو يمر إلى جواره، أو مسبح مكهرب الماء بسبب إهمال عامل أو عدم تدقيق مهندس، أو مبنى ملعوب في أساسه، وحديد تسليحه، ورخصة بناءه، في تعليم فاسد، وإعلام فاجر، وكذب يملأ الآفاق، وكيد الليل والنهار لإتعاب الناس، أو إهمالهم وعدم الاكتراث بهم، وتركهم يموتون بالفشل الكلوي من ماء فاسد، أو الالتهاب الكبدي، أو السرطان، وكلها صارت أمراض شائعة في بلادي!! هذا فضلا عن ظلم العسس وعسفهم.
تستفرد بي نظرات أطفال، أو تقطيبة جبين امرأة تكتم الآه، أو شاب زائغ البصر يمضي متثاقلا، أو يصخب ليتذكر أنه مازال على قيد الحياة، ولكنه بلاد أمل في مستقبل إلا بالهجرة، أو العمل في الجاسوسية، أو النصب المشروع أو الإجرامي!! لا أمل إلا بهجرة أو انحراف أو ضربة حظ، ثم يلام وهو يرقص رقصة الطيران الذبيح!!
الأسى في مصر يتشكل في صمت ويتوارى عن العيون وراء أصباغ المكياج، ومحاولات المصريين الدءوبة لتمثيل أنهم عايشين!! ومبادرات متناثرة هنا وهناك تؤكد أننا ما نزال نتنفس!!
يتحايلون باليأس على خيبات الأمل، بل هم نزعوا فكرة الأمل والحلم تماما من الواقع، وخيالهم، أو من مفردات عيشهم إلا بهجرة أو انحراف أو ضربة حظ، وكلها تجري في حياتهم دون ترتيب كبير، ودون طعم لنتيجة إذا تحققت، فقط يصعدون، أو ينتقلون من مكان إلى مكان، أو من طبقة إلى طبقة، أو من بلد إلى بلد، أو من مكانة إلى مكانة، دون كثير ضجيج أو بضجيج خاو من المعنى!!
مستسلمون للزحام والتلوث والفوضى، وغاية أملهم النجاة من الموت الذي يتربص بهم في كل لحظة، عسى أن يكسبوا يوما جديدا فوق سطح الأرضة بلا سرطان أو جنون أو اعتقال، ويعتبرون مجرد النجاة من هذه الأمور في هذه الظروف غنيمة، لأنها جميعا صارت تحصل لهم دون مقدمات!!! وإذا حصلت حصدت دون رحمة!!
وهم يحاولون بتحضر وحكمة ونبل أن يسيروا وسط حقول الألغام، وأن ينتزعوا العيش –مجرد العيش، ولا أقول الحياة –من بين أنياب شرسة لا ترحم، ولا تريد لرحمة الله أن تحل بهذا الشعب المغضوب عليه، حتى لا يغضب!!
والله أعلم وأرحم.
اقرأ أيضًا:
على باب الله: محنة العقل العربي/ على باب الله: التغيير