وحدي ـكما غالباـ هبطت بيروت مجددا تلاحقني الصور والذكريات!!
العام الماضي وحده قضيت أياما في بيروت وما حولها، بحيث زرت بعض المعالم التي طالما تمنيت زيارتها من قبل، ثم بعد أن رحلت عن لبنان في إبريل اندلعت حرب تموز لينقبض قلبي وقتها وأنا أشعر أن البلد الذي أحبه تحت الحصار والقصف، وأن البشر الذين أحترمهم ويملؤني التقدير لتحضرهم وإنسانيتهم يفرون مذعورين من ملجأ إلى ملجأ، وبيوتهم في الجنوب قد صارت أكوام حطام!!
وفي اجتماع الخميس قلت للزملاء في إسلام أون لاين لابد أن نفعل شيئا، وتحركت الجهود في تجاوب سريع، وكان ما كان من برامج مساندة نفسية أحضرتني ضمن آخرين إلى بيروت، وإلى الجنوب، مباشرة بعد وقف إطلاق النار في العام الماضي، لأرى الضاحية الجنوبية التي كنت أزورها في أبريل، قد صارت متحفا ضخما يشهد على المدنية الأمريكية، "والفوضى الخلاقة" التي بشرتنا بها الطغمة الحاكمة في عالم اليوم!!
واليوم أعود ولبنان يسير على حد السيف، وسط حقل ألغام، وهو أيضا في ظروفه الصعبة يسير وحيدا مثلما أسير، متعففا عن طلب العون والمساندة، مبتسما مزدهيا في صيف جديد مزدحم، وفي القلب والعقل هواجس ومخاوف، وتوقعات بحرب أهلية، أو هجوم إسرائيلي جديد، وماكينات إنتاج التخريف والغيبوبة لا تفتأ تعمل لتغرقنا في وحل الغياب عن الوعي الفاعل، والحراك الراشد، والتمييز بين الحق والباطل، بين العدو والصديق، بين الحقيقة والإفك!!!
وبالتالي فإن لبنان يغدو وحيدا مثلما العراق، ومثلما كل قطر، وكل إنسان عربي نبيل ليس لديه ثروة تجلب الطبل والزمر والصحبة، أو كل إنسانة ليست تمشي على آخر موضة: تنتف الحاجب، أو تقلد المائلات المميلات!!
وكأننا نعيش ونسير كلا على حدة أفرادا وشعوبا وأقطارا، الحكام في قصورهم ـ من القصر، ومن التقصيرـ والناس تعاني الوحدة بالملايين: ملايين العوانس شبابا وفتيات، وملايين المطلقات، وملايين الأزواج والزوجات الغرباء تحت سقف واحد!!
وملايين الأولاد والبنات في وحشة نفس الشعور القاتل، وحتى على مستوى الأقطار وبعضها!!
من منا يشعر بالآخر؟! من منا يفهم ألم الوحدة وضغطها وتدميرها إلا إذا كان يعيشها؟!
ومن منا يعرف معنى أن يكون في بلده غريبا؟؟ أو أن يكون بلدة وحيدا؟ إلا إذا كان يدرك ويشعر ويحس!!
ومن منا يشعر أو يفهم أو يحس؟!
من للجزائر الذي يتألم غارقا في نهب الفساد، وماضي الدم، وحاضر التوتر والضغوط؟!
من يشعر بالفقر الرهيب في المغرب، وهو البلد الغني بثرواته وبشعبه الطيب العريق؟!
من يدرك عظمة وإمكانيات السودان الذي يمكن أن يكون سلة غذاء العرب والعالم كله، إن توافرت بعض الأموال والجهود؟!
من يمد اليد للرائعة تونس، وهي بؤرة للتحضر والترقي والتواصل الجميل مع أوربا لولا ديكتاتورية عمياء صماء تتسلط عليها، وتدمر حاضرها ومستقبلها، من يمكنه أن يعطي بعضا من وقته ليعرف موريتانيا العريق والمنسي، الذي وكأنه فاجأ الجميع بديمقراطية تتحدى العروش والكروش!!
من لديه من عمق الإحساس والوعي ما يجعله يتجاوز التقلبات والتخبطات والصراعات والصدمات في الخليج العزيز، فيرى فيه خيرا واعدا مطمورا تحت الأرض، مثلما كان النفط، يحتاج إلى تنقيب واستخراج وتكرار!!
من يعرف سورية؟! ما أجملك يا سورية!!
ما أشهى الفواكه فيك، وما أعمق أصالة وعمق شعبك تحت طبقة الفساد والقهر!!
هل أنا مجنون؟! وأنا أعشق هذا العالم العربي المجنون قطرا قطرا، وشعبا شعبا؟!
هل أنا حالم حين أرجو للأيام غدا أفضل إذا بذلنا بعض الجهد ـ وراء هذه الأهوال والمشاحنات والانهيارات؟!
هل هناك أمل أن تستقل الشعوب شعوريا عن الإفك الأمريكي، والحكم الأمريكي، والوهم الأمريكي، وأن يستقلوا عن سيرة الحكومات، وعن الأمل في الحكومات، وعن لعن الحكومات؟!
هل هناك سبيل أن نتواصل كعرب بسعة أفق، وصحوة ضمير، وإدراك جيد لما يجمعنا حقا، وما نمتلكه صدقا، وما يمكن إنجازه فورا على صعيد التقارب والإنتاج المشترك في الزراعة كما الثقافة، وفي المعرفة كما في الفنون، وفي حل المشكلات اليومية والاجتماعية مستفيدين من هذا التنوع الخلاق الذي تحمله أوضاعنا من المحيط إلى الخليج؟!
هل لدينا بصيرة لنرى لبنان مؤمنا ومجاهدا ومتنوعا ومتحضرا ـكما هو فعلاـ رغم الأصباغ، والمناوشات، والشفاه والصدور المنتفخة بعمليات التجميل، وفي أغاني الفيديو كليب؟!
هل سنمتلك المبادرة لنكف عن ترديد الببغاءات لقوالب لفظية، وأفكار بالية عدائية يحملها كل شعب عربي عن الآخر، بل وتحملها كل جهة أو محافظة عربية عن الأخرى داخل نفس القطر؟!
هل هناك أمامنا أمل غير أن نهجر الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وأن نكف عن التحاسد والتدابر، وصناعة الفتن أو استهلاكها، وبقية برامجنا اليومية المفضلة المتراوحة بين الهبل والشر؟!!
تجددني بيروت بالأمل، وتغمرني بالمشاعر المتفائلة، وبحنين إلى القبول بالتنوع واعتباره عنصر إثراء لا مقدمة حرب، يغريني لبنان بالمزيد من الكتابة عن الحق والخير والجمال لأنه بلد فيه من كل هذه الأشياء نصيب وافر شكلا وجوهرا، أعيد اكتشاف لبنان مع كل زيارة!
في اتصال هاتفي أخير قال لي صديق بيروتي جديد: ألم يكن من الأفضل أن يقيم "عبد الناصر" الوحدة مع "لبنان" بدلا من "سورية"؟!
ويقصد ما حصل في الستينات، ولعله قال: لو حصلت وحدة بيننا ما تركناكم وانفصلنا، قلت بسرعة: لعل "ناصر" كان يعرف التأثير السوري على لبنان فأراد التواصل مع بيروت عبر دمشق!!
وربما تكون هناك فرصة قادمة لتصحيح الأخطاء، والاستفادة من الدروس، وشكر نعمة الله على العرب إذ حباهم "لبنان"، وفي كل بلد عربي يمكنني أن أقول مديحا مماثلا لما لمسته من جوانب جمال، لكنني أحكي اليوم عن لبنان، وأنا أكتب على كورنيش الروشة!!
لدينا من الله نعم كثيرة في لبنان وغيره، والمشكلة أن بعضنا لا يراها، وآخرون يبدلون نعم الله كفرا ـكما حكى القرآنـ والبعض مصرون على تدمير كل جميل، فلا يبقى إلا قبحهم وبشاعتهم!!
أنا سعيد بوجودي على أرض أعشقها، وكلما جئت إليها تألمت وتعلمت وتأملت، وأزداد حكمة وسرورا، وما الحياة إلا من هذا وذاك، ويعطيكم العافية.
5/7/2007
اقرأ أيضًا:
على باب الله: طريق الشيطان/ على باب الله: صاحبي يسأل، وأنا أتساءل