حين تلقني لا تسألني ما بي!!
أخي عمرو الجنيدي؛ تحية طيبة وبعد
لقد أثار موضوعك حديثا ذا شجون في نفسي؛ فأنا أب لولد وحيد، وهبه الله لي بعد صبر ومعاناة ودعوات استمرت لأكثر من سبع سنين، والطفل الوحيد في تربيته مشكلة عويصة مؤلمة لوالديه، وأظن أن ولدي قد نال من الدلال والعنج والدلع في سني عمره الست الأوائل ما لم يحصل عليه الكثير من الأطفال الآخرين في العالم، وأنا لا أمن عليه بذلك ولكنه رزقه الذي قدره الله له، ولكنني بعد عمر السادسة بدأت أشعر أنه يتجه إلى الأنانية وعدم القدرة على تمييز حقوق الغير، وهذا أشد ما يؤلمني بصفة عامة في معاملات الناس مع بعضهم البعض، ولقد أدى هذا إلى أن أغير سياستي معه إلى الشدة، وبالذات إذا وجدته يفتئت على حقوق الآخرين، أو يتصرف أي تصرف منه فيه إيذاء لنفسه؛ مثلا عندما يقصر في مذاكرته مثلا، وبالذات في ظل المناهج الغبية، والتي تعتمد أساسا على حشو عقل التلميذ الصغير بمعلومات لا تتناسب مع عمره الصغير ولا بيئته، والمحصلة بالطبع هي كراهية أطفالنا لتلك المناهج المتخلفة، وكراهية القراءة والكتابة؛ وسأضرب مثالا لكم على ما أقول:
في منهج القراءة -باللغة الإنجليزية- المقرر على ابني في الصف الثاني الابتدائي بمدرسة دولية -كما يقولون- كان الموضوع الأول بالكتاب عن الحيوانات المدللة، وأن تلاميذ الفصل ذهبوا في رحلة لإحدى المزارع، وكان أحد هؤلاء التلاميذ الصغار يحمل ثعبانا من نوع "الأبوا العاصرة"، وتخيل أن "حية الأبوا"هي حيوانه المدلل!!!، وعندما رأت الخنازير وطيور المزرعة "الأبوا العاصرة" هربت الطيور والخنازير إلى داخل أتوبيس المدرسة وحدث هرج ومرج، وخرج أصحاب المزرعة يطاردون التلاميذ بالعصي، فهرب التلاميذ مع الطيور والخنازير من المزرعة في داخل الأتوبيس، وتركوا الثعبان الضخم داخل المزرعة!!، وأكرر بأن هذا هو أول درس في كتاب قراءة ولدي، وهذا الكتاب من الكتب المقررة في بعض الولايات الأمريكية!!، والمنهج يتم تدريسه لتلاميذ صغار بإحدى الدول العربية، ومعظم التلاميذ بتلك المدرسة من العرب والمسلمين، والأغراب أن أولياء الأمور يدفعون ما يوازي أكثر من خمسة عشر ألف جنيهاً مصريا في الصف الثاني الابتدائي!!!، وكان قراري بنقله من تلك المدرسة، وإن كانت المدرسة الجديدة ليست أفضل بكثير من سابقتها!!.
المهم، أنني قد أجد نفسي -أحيانا فقط وليس عادة- أسلك نفس سلوك -وحيد وفيلسوف وعبقري زمانه توفيق الحكيم بالنسبة لولده إسماعيل- مع ولدي!!، ولكنني أتراجع كلما شعرت بقسوتي عليه، والمشكلة أنني وجدت من زملائي وأصدقائي من يسلكون نفس السلوك وأسوأ مع أبنائهم وأنا متيقن أن بداخلهم خوفاً من أن يفسد أبناؤهم مع الحنان والود الأبوي الزائد، وقائدهم في ذلك بيت الشعر الجميل:
قسى ليزدجروا ومن يك راحما فليقس أحيانا على من يرحم
ويقودهم أيضاً الحكمة القائلة: "عامل ولدك كالأمير خمس سنين، ثم عامله كالأجير عشر سنين، ثم صادقه بعد ذلك طول العمر". فلا ينفع أن تحقر ولدك وتسبه وقد تعدى عمره الخامسة عشر ربيعاً، وهو في أوج مراهقته، ولكن وجب عليك صداقته وإجراء الحوارات المثمرة النافعة معه، وكأنه صديق لك، ولا يجوز لك أن تسبه أو تضربه أو تحقره –وبالذات أمام الآخرين- وقد أصبح مراهقا، يشعر في نفسه أنه يعرف عن الدنيا أكثر منك، وإمكاناته العقلية أكبر من إمكاناتك، وأن تفكيره أفضل من تفكيرك، وأن زمنه أكثر رقياً وتقدما ً من الزمن الذي عشت أنت وأنا فيه!؛ لذا نجد أنه لا بديل عن الحوار الناضج البناء مع أبنائنا المراهقين، وليتنا نجرب أسلوب الحوار هذا مع الصبية وصغار الأطفال لعل حال أمتنا ينصلح بمرور الوقت وتعاقب الأجيال الواعية النابهة، وليبدأ كل منا بأبنائه، فلا يصح أن أكتب للناس عن الحوار المستمر بين الآباء والأبناء وأنا لا أحاور ولدي وأناقشه للوصول إلى الحل الأمثل، ولو كان هذا الحل الأمثل قد أتى على لسان ولدي، وليس من بنات أفكاري أنا!!.
ومن كلامي يتبين لنا أن تربية الأبناء كمشي البهلوان على الحبال في السيرك، وكان أبي رحمه الله يقول أمامنا:
"تربية الأولاد كمضغ الزلط"، أما والدتي رحمها الله فكانت تقول: "الأبناء بحاجة لأب سعيد وأم حديد"، وتخيل نفسك تسير على حبل أو تخيل نفسك تمضغ زلطاً!!، الموضوع صعب جدا وليس سهلا، فهو يحتاج لدراسة طرق التربية، ويحتاج لفهم علم نفس الأطفال والمراهقين، ويحتاج للمتابعة الدقيقة بدون تفريط أو إفراط في تربية ومتابعة أبنائنا، هم محتاجين إلى أن يشعروا بأننا نحبهم ونتمنى لهم أن يكونوا أفضل منا وبصدق ومن قلوبنا، لأنهم امتدادنا، كل ذلك دون أن يبتزونا عاطفيا مستغلين عشقنا لهم وتعلق قلوبنا بهم، فهم أكبادنا التي تمشي على الأرض، هم محتاجين للتوجيه المستمر منا لهم، والتوجيه يكون بالأفعال الطيبة قبل أن يكون بالنصائح والأقوال، ولا تنسوا القول الحكيم: "فعل رجل في ألف رجل أكثر تأثيراً ونفعاً من أقوال ونصائح ألف رجل في رجل".
وأنا معك تماما أخي عمرو في أن العلاقة بين توفيق الحكيم وابنه إسماعيل، والذي مات منتحراً بعد أن فشل في كل مشاريعه الفنية كما يُقال، لقد كانت بحق علاقة: من لم يُكرِِم زرعه ومن لم يُحسِن إليه؛ فكان الحصاد مراً وحُصرماً، ولم تكن العلاقة بينهما هي علاقة صراع بين الآباء والأبناء والتي ذكرها ديستوفسكي في روايته الخالدة "آباء وأبناء"!!.
وسأختم مدونتي الصريحة والمقصودة تلك بهذه الأقوال الحكيمة، والتي أحببتها كثيراً، وأتمنى أن أتمثلها في حياتي دائما:
يقول الشاعر:
إياك أن تعظ الرجال وقد أصبحت محتاجاً إلى الوعظ
ويقول الشاعر:
ياأيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما الشفاء به وأنت سقيم؟!
وقال أحد الحكماء: وجدت هذه الكلمات مكتوبة على مقبرة أحد الرجال: "عندما كنت صغيرا وحرا، ولم تكن هناك حدود لخيالي، حلمت بتغيير العالم، وعندما كبرت أصبحت أكثر وعيا ونضجا واكتشفت أن العالم لن يتغير، لذلك اختزلت أمنيتي إلى حد ما وقررت أن أغير وطني فقط، ولكن ذلك أيضا بدا لي صعبا، وعندما وصلت إلى مرحلة اكتمال النضج، وفي محاولة يائسة قررت أن أغير عائلتي فقط، ولكن لم أستطع أيضا تحقيق ذلك، والآن وبينما أنا راقد في فراش الموت أدركت فجأة أنه لو أنني قد غيرت نفسي أولا لكان بإمكاني أن أغير عائلتي؛ فمن إيحاءاتهم وبفضل تشجيعهم، كنت سأقدر على تحسين موطني وربما استطعت أن أغير العالم بأسره"؛ فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.
ويقول الحكماء في ذلك المعنى:
"إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من نفسه".
ويقولون أيضاً: "ليس الحكيم بكثرة العلم، إنما الحكيم في الانتفاع به في العمل".
واقرأ أيضاً:
الطريق إلى بيت جن(1) / يوميات ولاء: أحب مصر- مشاركة