كدت أذوب خجلا حين وقفت أستاذ الطب النفسي بالقصر العيني لتقول لي: نبارك جهودكم، ونراكم امتداد طيبا لعمل الرواد!!
أشعر بالفخر حين أنتمي لمسار سبقني فيه أ.د. عبد العزيز عسكر، وأ.د. عمر شاهين، وأ.د. عادل صادق، ومن الأحياء أ.د. أحمد عكاشة، أ.د. يحيى الرخاوي (بترتيب السن على ما أعرف) وفي الأزهر كان أ.د. محمد شعلان مدرسة أخرى، وهكذا وأسماء وراء أسماء، وأجيال وراء أجيال أعتز بهم، وأبذل جهدي أن أكون لبنة في جدارهم، خطوة على أثرهم، وشعلة على دربهم إضاءة وتنويرا.
أسابق الزمن وأصارع الضغوط والظروف لأجلس إلى أحدهم مستمعا ومتعلما، ليس في مجال التخصص فحسب، ولكن في طريقة السلوك، وكرامة العلم، وأخلاق العلماء والرواد، فقد تعلمت أنها منظومة متكاملة وصارمة.
وأنا من نمط يتعلم بالمعايشة أكثر من القراءة، وعندي عيون وآذان لاقطة، وذاكرة حافظة لتفاصيل الحركة والسكون، ونبرة الصوت،وحتى الإيماءات البسيطة، ولكنني أخجل من الإقحام أو التطفل الذي يجيده آخرون، فقط أجلس قريبا أو بعيدا مصغيا ومستمتعا ثم أرحل في هدوء.
بعد مؤتمر الجمعية العالمية للطب النفسي الذي انعقد في مصر منذ ما يربو على العامين ذهبت لإجراء حوار مطول مع أستاذي الدكتور عكاشة، وجلست إليه وبسط الكلام من العلم إلى المجتمع والسياسة، وهو يشير إلى محاضرة هنا أو مرجع هناك، ولا يرد على هاتف، أو ما يسمح بمقاطعة حتى انتهينا. مسئولية ورسالة وجهد واجتهاد وجهاد أن يكون المرء في مثل هذا الموكب مسبوقا بمثل هؤلاء!!
وقريبا استمتعت بمحاضرة شديدة الثراء لأستاذي الدكتور الرخاوي ثم تأثرت جدا حين رأيته بعدها بأيام يضع جبيرة حول ذراعه الأيسر، وخجلت أن أسأله: كيف حصل هذا، ومتى؟!
فقط تمتمت بيني وبين نفسي: سلامة ذراعك يا أستاذي!! كلما زادت الأعباء والمهام والسنون أشعر في جامعاتنا بأهمية التوريث الغائب، فالعلم ليس كتابا ولا بحثا منشورا فقط، ولكنه كبير صاحب خبرة يحاول نقلها للأصغر، والأصغر لا يستنكف، بل يحرص على أن يسمع ويتساءل، ويجرب ويناقش، وهذا المناخ يبدو غائبا عن أغلب مجامعنا العلمية!!
ربما أسعدت الظروف غيري بحيث اقتربوا علميا وإنسانيا، وشربوا أكثر من معين الرواد، وربما ظروفي أنا تساعدني على الوفاء لهم بطريقة أخرى غير مجرد الاقتراب والامتنان!!
أما أساتذتي في نفس جامعتي فلا يدخرون وسعا في التوجيه والتشجيع، وترشيد صرف الجهد في الاتجاه بدلا من ذاك، وهم الدائرة الأقرب، والمحضن الأخطر كما تبين لي مؤخرا، فالصوت المنفرد أضعف من حركة المجموع، وعمل الفريق بمنهج وخطة وتعاون أكثر بركة وتأثيرا من جهد الفرد مهما كان، وتجربة أ.د. يحيى الرخاوي في القصر العيني، وفي دار المقطم، وخبرة أ.د. محمد عكاشة من قبل ومن بعد تأسيسه لمركز الطب النفسي بجامعة عين شمس دلائل متواترة على هذا، بل إن عكاشة يبدو مثل جيش في رجل!!
أملي كبير في أن نستأنف ما بدأه الرواد ويكاد يندثر، وأعني هنا شجاعة الاجتهاد والمساهمة في أبحاث تطوير التخصص تشخيصا وعلاجا، هذه الثقة بالنفس، وجسارة النقد العلمي دون الاكتفاء بالاعتماد على الغير، وانتظار المدد والتجديد منه! جرأة تعلمتها من الرخاوي مع ضبط وصرامة عكاشة.
وتلك المحاولات المباركة التي بدأت خلال القرن العشرين، ومنذ تأسيس جامعة القاهرة التي نمر بالذكرى المئوية لتأسيسها هذا العام!! أسماء مجهولة للأجيال الجديدة تماما، وجولات وجهود هائلة للتفكير والتواصل مع ما كان يجري في عقل العالم، وما يدور في حقول المعرفة كلها، بل والفنون والآداب وغير ذلك من المجالات!! واستمرت الخطوات والمحاولات.
نهضة شاملة قامت على أكتاف علماء ومبدعين، ولا يمكن أن نسمح بضياع هذا كله لمجرد أننا فقراء أو انهزمنا في يونيو 1967، لا يمكن أن نتوقف عن التفكير والإبداع، وإنتاج المعرفة، وطرح الأسئلة، ونقد المستورد، ومحاولة استيعابه وتجاوزه أو حتى تقليده إن كان يستحق لا يمكن أن نتوقف عن الشك المنهجي، والنقد الذاتي، وعن المحاولات والتجارب، ودأب البحث، وحوارات ومناظرات السعي إلى الحقيقة!!
إن الاستسلام للأمر والواقع تحرسه سلفية جامدة وجماعية تعني موقفا مزريا من الجديد، ومن مراجعة القديم، والتسليم بأن الأوائل ما تركوا لنا شيئا إلا وبحثوه!!
ومثله الغرق في التقليد والاتباع الأعمى، والتخلي عن مسئوليات الإنسان، وتفويض الآخرين، أو إطلاق الأحكام عليهم بالتقصير، ودمتم!!
إن الإذعان للمستورد بوصفة فصل الخطاب، أو العلم النافع الصحيح وحده، مثل التسليم للتقديم أو إعادة ترديده، وهذا الركود الذي نعيشه يتغذى على تقديس القديم أو المستورد، وشرف العلم، "والعلماء ورثة الأنبياء"، أن يمارسوا غير ذلك، وأن يكونوا طليعة استئناف واستعادة شرفنا الضائع، وجهادنا الغائب في كدح العقل، وإيقاظ الضمير! وهذا هو الجهد المطلوب من كل مؤمن، والله أعلم.
اقرأ أيضًا:
على باب الله: صاحبي يسأل، وأنا أتساءل/ على باب الله: عسر ويسر، وبيبسي وفقر: مشاركات