عرفتها من أيام المدرسة كصديقة حميمة لأختي الكبرى كلما جاءت سيرتها في العائلة تتذكر أمي يوم خاطت لهما علمي فلسطين ولبنان ليحملاهما في مظاهرات الأزهر ضد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 82. كنت أعرف من زمان أن والدة نادية إيطالية وعندما كبرنا علمت أنها الصحفية نائلة كامل. وفي الأسبوع الماضي تعرفت على أصلها وفصلها في شريط سينمائي واقعي جدا مدته ساعتان نفذته نادية على مدى خمس سنوات كاملة وبه مادة توثيقية مهمة للغاية حيث ترصد كاميرا نادية التحولات في حياة المصريين من خلال تذكر أمها لجذورها وهي تحاول أن تشرح لحفيدها نبيل حفيد السياسي الفلسطيني البارز نبيل شعث بأسلوب حكي ممتع التشعبات والروابط المختلفة لعائلتها.
تبدأ نادية كامل فيلمها "سلطة بلدي" بمشهد صلاة العيد عندما تصطحب أختها ابنها لأول مرة لهذا الطقس البهيج وينتهي المشهد بصوت الشيخ في خطبة العيد الذي يؤكد على الأعداد الغفيرة للمسلمين في أنحاء العالم وكيف يتوجب عليهم أن يسودوا العالم وكأن العبرة بالكثرة، كلام كالذي يتردد ليل نهار على المنابر وعبر وسائل الإعلام الرسمية والفضائيات فيعطي إحساسا لنا كمسلمين بأن العالم كله ضدنا ولا هم له سوى فنائنا.
وتبدأ رحلة الأم مع ابنتيها وحفيدها وزوجها بزيارة الأهل في إيطاليا ويجيء على لسان أحد أقربائها أن مصر كانت بالنسبة للجاليات الأجنبية من فرنسيين وإيطاليين ويونانيين بلد رخاء وعن عدم رغبته في ترك مصر لكن الجو المشحون ضدهم بعد ثورة 23 يوليو والتعامل معهم كذيول للمحتل جعلت حياتهم في مصر صعبة كما نكتشف أن والد ماري أو نائلة الإيطالي لم يكن يحمل الجنسية الإيطالية فقد ولد وعاش بمصر.
ثم يجيء الجزء الأصعب في الفيلم عندما تكشف الأم عن أن فرعا من أهلها يهود، رغم أن أمها أصلا مسيحية وهي الآن مسلمة بعد زواجها من والد نادية الصحفي سعد كامل المشهور بانتمائه لليسار المصري وموقفه السياسي المقاطع لدولة إسرائيل ويرتبك الحفيد الصغير وهو يقرأ مع جدته ديانة الجدود "إسرائيلي" و"إسرائيلية" وهذا طبعا قبل قيام دولة إسرائيل.
ثم تثور داخل الأم الرغبة في زيارة أقاربها في تل أبيب خاصة ابنة عمها سرينا المريضة بالقلب وعلى شفا الموت وتحاسب نفسها، هل كان عليها أن تقطع صلتها بهم نهائيا على مدي خمسين عاما. في البداية يرفض زوجها الفكرة ثم يذهب معها مؤكدا أن معنى أن يختلف موقفه عن موقف زوجته أن مواقفهما السياسية الرافضة للاحتلال الإسرائيلي قد أصبحت متعارضة وهو أمر غير حقيقي. وتدخل الأم في صراع فهي التي قضت سبع سنوات من زهرة شبابها في السجن كمعارضة لنظام عبد الناصر ومدافعة عن الديمقراطية وحقوق الطبقات الشعبية في مصر وهي من قضت عمرها مدافعة عن القضية الفلسطينية ومعارضة للسياسات العنصرية لإسرائيل.
وفي النهاية يتم حسم الأمر فتذهب نادية وأمها وأبوها أما نبيل فمن المستحيل أن يذهب معهم لأنه مقيد في جواز سفره كفلسطيني من قطاع غزة. أما الأخت دينا فترد بمنتهى الصدق الذي لا يملك الإنسان إلا أن ينحني له احتراما "إذا كنت مش عارفة أجاري المجتمع اللي أنا عايشة فيه يبقي حأقدر أقف ضده؟" ثم نشاهد الجزء الإسرائيلي من العائلة وصورة لشابين مجندين معلقة على الحائط وتحكي سرينا التي نعلم من تيترات النهاية بوفاتها عن الوضع الصعب الذي عاشوه عندما أتوا إلى فلسطين عام 46 والوضع المخيف والمرهب الذي عاشوه في مصر كيهود ومع ذلك فهي قد اضطرت إلى الهجرة نظرا لإصرار أخيها على اصطحابها هي وأمهما العجوز. لكن نادية تحاول مراوحتهم عن أسباب هجرتهم إلى إسرائيل بالتحديد، وقريب آخر يشاغب سعد كامل مرددا كلنا أبناء العروبة ويحكي عن الساعتين المقدستين التي يقضيهما يوميا مع صوت حبيبة قلبه أم كلثوم.
نادية كامل تصدت بشجاعة لقضية من المحرمات لا يملك الجميع القدرة على الاقتراب منها فهي قضية ملغمة لذا فهو فيلم يستحق المشاهدة والتفكير. في الآخر كلنا سلطة بلدي بتعبير نادية كامل المهذب وبتعبيري الشخصي "بزرميط" أو في الأصل مجرد بشر فرقتهم الحروب ذات الدوافع الاستعمارية والغطاء الديني والعقائدي.
اقرأ أيضاً:
في بلاد الرجال/ عندما تتحد الملامح وتختلف الثقافة