كنت أشهد كثيرا -وما زلت- جدالا طرح البعض أن تطبيق الناس للإسلام يتنوع حتى تجوز تسميته إسلاما يختلف من مكان لآخر، ومن عصر لآخر!!
فيقال اصطلاحا: إسلام الصحابة، أو الإسلام المصري، أو الأسيوي...الخ، وفريق آخر يرد أن الإسلام هو إسلام واحد، وهذه التقسيمات هي خاوية من المضمون، وتساق لتمييع المواقف، وتشويه الحقائق، حتى قرأت للأستاذ الكاتب المرموق فهمي هويدي كلاما قديما يفرق فيه بين الإسلام / الرسالة، وهي واحده بلا شك، والإسلام / التطبيق، وهو متنوع ومتعدد بحكم اختلاف إفهام البشر، وكذلك ظروف المكان والعصر، ويبدو أن هذه الفكرة تحتاج منا إلى تأكيد وتوثيق وتسويق حتى نخرج بها ـعلى الأقلـ من دفع الإسلام والمسلمين جملة بتهمة معينة، أو تعميم خطأ البعض ليشمل الكل، ومن ثم أخذ البريء بجريرة المذنب!!
ثم تحركت في الحياة لأشاهد رأي العين ما سبق وقرأته، وشاءا الله لي أن أتجول سائحا بين خلقه، وفي أرضه شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، وأجلسني سبحانه وتعالى بين خلق شتى في طبقاتهم وخلفياتهم وتنويعاتهم بين مهتمين بالأديان،، وغير مبالين بها، فبعضهم يعتبر الدين للمرء مثل الماء والهواء، وأهم عنده من روحه، وآخرون يعتبرون الأديان محض سفسطة وهراء غير جدير بالاهتمام، ولا تضييع ثانية واحدة في ممارسة طقوس، أو مناقشة أبعاد!!
وكنت في كل سفر، وفي كل مجلس نقاش، أعرض ما أسمع، وما أتصور على إسلامي الذي تعلمته بحكم عيشي في بلد عربي مسلم، وبيت متدين محافظ لا يخلو من مرونة، ولا من استخدام العقل، إضافة إلى احترام وافر للغة والعلم والمعرفة مثل أغلب بيوت المصريين من الطبقة الوسطى.
وكم توقفت أمام أشياء مراجعا ومندهشا، وكم صادفتني مفاجآت واكتشافات، وكم شعرت تدريجيا وكأنني أعرف ديني، وأعرف نفسي وهويتي من جديد، ولست نادما أن هذا قد شغلني عن أشياء أخرى شخصية، وعطل مسيرتي في سبل أخرى كان مطلوبا مني أن أنجز فيها، ولكن يبدو أن استكشاف الإسلام في ضوء ما كنت أتلقاه من خبرات، وإعادة اكتشاف ذاتي، أو بالأحرى التعرف على نفسي قد استغرق مني أهم سنوات عمري، وأحسب أن الأمر يستحق!!!!
الحاصل هو ما وصلت إليه وما أحاول عرضه أحياناً، وأتجاهله أحياناً أخرى لأنه فارق ومزعج للذات وللآخرين، ومسئولية وتكليف ثقيل إلا أن يعين الله عليه!!
الحاصل أنني في مواضع كثيرة صرت أتألم حين أرى فجوة هائلة مثل ما بين السماء والأرض تفصل بين ما يمارسه المسلمون ـأو لنقل بعضهمـ وبين الإسلام كما عرفته، وكما فهمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فهمه وأفهمه ومارسه، وكذلك مسلمو الصدر الأول، والعصر الأول للإسلام!!
المسلمون، أو بعضهم، مستغرقون ومنهمكون في قصص وحواديت وحكايات وتفاصيل ومناقشات ومشاحنات بعيدة عن الموضوع، أو الموضوعات الرئيسية للإسلام!!
ماذا عساي أن أفعل؟!
ماذا يمكن أن تفعل وأنت ترى هذا الوضع؟!
كنت أتحدث من يومين مع صديق شاب يصغرني بنحو عشر سنين، وكنت أشرح له كيف أرى من مصر، وفي مصر ما لا يراه كثيرون من إمكانيات مذخورة تنتظر الاستثمار، وكنوز ملقاة على قارعة الطريق تبحث عمن يعيد اكتشافها، وينفض عنها التراب، ويوظفها لخير أهلها ومستقبلنا، ثم لاحظ تأثري حتى كادت عيناي تدمعان، وسألني: هل ترى هذه الأشياء بعينك أم هي مجرد مشاعر جياشة تملأ قلبك ووجدانك ؟!! فقلت له أراها وأحسها، وكم يؤلمني هذا لأنني أشعر بالغربة وسط الساخطين واللاعنين ممن لا يرون أملاً ولا مستقبلاً، أعضاء حزب خربانة وأمثالهم وهم كثير للأسف الشديد!!
نفس الكلام ينطبق على الإسلام حين تهزني وتبكيني المفارقات بين عظمة هذا الدين، وروحانيته، ومثاليته الواقعية، وإحكام بنائه، وروعة فهمه للإنسان، وتنظيمه لحركته في الكون، وعمق نظرته للبشر وللحياة بتفاصيلها وتعقيداتها، ثم من الجهة الأخرى هذه المعاناة والعنت، والهبل والخلل، والتهريج في الفهم والممارسة!!
مفارقات بين الضبط المذهل، والتخبط المريع، بين مراعاة مصلحة الناس، وتقدير احتياجاتهم، وبين احتقارهم، وإهدار طاقاتهم فيما لا طائل من ورائه، بين إطلاق الحرية للعقل وللإبداع، وإطلاق الطاقات جميعا لعمارة الأرض، وبين الخراب في النفوس والبيوت ممن يصلي ويصوم ويزعم أنه مسلم!!
وأعود حذرا ومتسائلا: هل هذه هي الجاهلية كما أسماها سيد قطب؟! هل كان يقصد هذه المفارقات، أم يقصد ما ذهب إليه البعض ممن وافقه أو خالفه من أن المجتمعات الإسلامية ليست مسلمة!!
وأن هناك ردة كاملة عن الإسلام، ويجب تصحيح هذا الوضع، وعلاج الاعتقاد الفاسد؟! هل كان "سيد قطب" يقصد بالجاهلية مصطلحا معرفيا، أو تحليلا على مستوى المعرفة والفهم والتجريد والفلسفة والتفكير، أم كان يقصد _كما فهمه هؤلاء وأولئك_ المستوى الاعتقادي الفارق بين كفر وإيمان؟!
أنا لا أقول مطلقا أن المسلمين كافرون، أو في حاجة إلى تجديد النطق بالشهادتين... الخ، ولكنني أعتقد أن فيهم جاهلية معرفية عميقة الجذور، ومتشابكة الأغصان والفروع، وأنهم يحتاجون إلى تجديد وتطوير وتأصيل فهمهم للإسلام، وممارستهم له!!
وبدون ذلك سيظلون في كرب وضيق وعنت، في محض أغلال وأصفاد وسجون وقضبان نكدة يحسبونها تكاليف الشرع، وهي محض فضلات الجاهلية التي فيهم!!
وجدت إسلامي وعرفته رحبا واسعا مثل قصر منيف شاهق وأنيق، دافئ وحميم، سهل ومركب، شفاف الجدران، ولكنه غالبا ما يستر العيب، ولا يبدي المساويا ويشيع الخير بين الناس فيسعدون بذلك!!
وكأنني بكل مسلم ومسلمة في هذا العصر أمام مفترق طريق إن آجلا أو عاجلا، أو اختبار وتمحيص، وزلزلة وجودية مذهلة، حين يرى دربا تسير فيه القطعان مدفوعة أو مسحوبة أو منقادة تتلقى الدين وكأنه مجرد أوامر للإذعان والتنفيذ دون محاولة فهم، أو مناقشة حكمة تشريع، أو استطلاع آفاق توسيع على الناس، إن ضاقت أمامهم السبل!!
ثم درب آخر يرفض فيه آخرون أن يعيشوا هكذا كالأنعام أو أضل، ويرون الإنسان أشرف وأكرم من أن يكون مثل البهائم بلا عقل ولا ذاكرة ولا إبداع ولا دور، يربطه أهله ثم يحلونه، لا يدري لم ربطوه، ولا متى ولا لماذا يحلونه!! وهؤلاء يريدون أن يعيشوا حياتهم وحريتهم ولا يتصورون ذلك إلا بعيدا عن الدين!!
كثيرون يبقون مع القطعان لأنهم لا يريدون أن يفقدوا الدين، ولا بأس من تعطيل العقول عندهم، ولا بأس من أن يقولوا خبلا كما يردد من حولهم، أو أن ينخرطوا في طقوس القطعان وأفراحهم وأحزانهم، وكثيرون يكفرون بهذا وذاك، ويسيرون مع العقل والحرية ولو ضد الدين، وسيرة الدين، ورؤية الدين إذ لا دين في رؤيتهم وإدراكهم إلا دين تلك القطعان، فقط قلة قليلة تفطن إلى الخداع الخفي في هذا الفصام النكد، وتدرك أن في الاختيار سبيل ثالث، لو كانوا يعلمون!!!
أية خدعة هذه يا الله؟! وأية فتنة تلك؟! مرحبا برفاق الدرب الذي يبدو موحشا.
اقرأ أيضًا:
على باب الله: الله يا مولانا، أصداء وردود/ على باب الله: مسافر ليل