أرسلت أماني عبد الحافظ (صحفيه، 22 سنة، مصر) تقول:
تسرب آلاف المرضى النفسيين إلى الشوارع
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
د/وائل بعد التحية.........
أنا أماني صحفية بجريدة.... وكنت بعمل تحقيق عن تسرب آلاف المرضى النفسيين إلى الشوارع فما تفسيرك لذلك؟؟؟ الأمراض النفسية المختلفة التي تصيبهم؟؟؟
مدى تطور هؤلاء المرضى؟؟؟؟
بعض هؤلاء يهوون جمع القمامة وآخرون يسيرون عراة والآخر يتحدث بصوت عالي فيسب ويلعن؟؟؟؟
رؤيتك لتوفير حلول لهؤلاء؟؟؟؟
أرجو الاهتمام ولك ألف شكر
أماني
7/9/2007
الابنة العزيزة أماني؛ أهلا وسهلا بك على مجانين، لست أدري إن كانت لديك معلومات مؤكدة عن أعداد هؤلاء المرضى وهل هناك بياناتٌ رسمية عن ذلك أم لا؟
منذ زمنٍ بعيد يا ابنتي وأنا أرى مرضى نفسيين في الشوارع، في مواقف السيارات وفي الحدائق والمنتزهات العامة، ولكن هل علاماتهم فقط هي ما ذكرت من قبيل جمع القمامة أو السير في عري أو السب بصوت عالٍ؟ علاماتهم أكثر من ذلك بكثير وبعضها يعرفه الجميع وبعضها يعرفه المتأملون والمتخصصون بالسلوك الإنساني..... لكن يبقى مرضى نفسيون كثيرون بيننا دون أن يعرفهم أحد إلا من قريب، فليست العلامات التي ذكرتها علامات مرضٍ نفسي بالضرورة وإنما هي دلائل معاناة فاض بها أصحابها.
ما رأيك أن نتتبعها منذ أيام الطفولة؟.... موافقة أكيد... إذن عرفنا صغارا عبيط القرية وهو غالبا ناقص النمو عقليا بدرجة تسمح برفع الحجاب الاجتماعي عنه ودخول كل بيتٍ من بيوت القرية وهو أيضًا يعامل كما يعامل الشيخ أو المبروك أو الذي لا يتوقع منه الشر لأنه طيب! فيعيش في القرية منتقلا بين البيوت والمساجد فيأكل ويشرب هنا ويصلي هناك، وأرى ذلك -على عكس كثيرين من زملائي- دليلا على قدرة مجتمعنا –التراحمي أصلا- على احتواء أعضائه وقبولهم، لا علامة على جهل مجتمعاتنا بمفاهيم الطب النفسي!
ومن القلب أقول لك أن مثل هذا "العبيط" نادرا ما يشكل خطرا على أحد.... وغالبا ما يكون من فئة النقص العقلي الخفيف أو متوسط الشدة، وكثيرا ما يكون خاليا من الأمراض النفسية، يعني فعلا لا يمثل خطرا على أحد، بل هو من يكون معرضا لخطر أن يستغله الأشرار، فيفعل أخطاء أو جرائم وهو غير مدرك لما يفعل، ورأينا في المسلسلات التليفزيونية والأفلام السينمائية صورا لعبيط القرية من بينها أن يزفَّ خطاه الأطفال صائحين "العبيط أهوه!" وهو يجري أمامهم وربما يداعبهم وربما يقذفهم بالطوب... ورأينا الكبار ينهونهم عن ذلك... نهايته هذا أمرٌ يعني لي كثيرا من التفكير ليس هذا وقته.
قد يفسر البعض تلك الظاهرة القديمة على أنها كانت بسبب عدم وجود مؤسسات تستوعب المرضى النفسيين، ولكن الحقيقة أن المجتمع التراحمي لا يحتاج كثيرا منها ولذلك لم توجد، في حين وجدت المستشفيات والمصحات النفسية لعلاج مرضى النفوس، ثم دارت العقود بمجتمعاتنا فاستوردت نظاما أو –شكل- نظام للرعاية الصحية ومن بينها النفسية فأنشئت مؤسسات وحورب الجهل بدورها الاجتماعي المهم!، وكان ذلك في نفس الوقت الذي طحنت أفراد مجتمعاتنا فيه بكل القوى التي تحض على الفردية، ثم كانت النتيجة المفاجئة أنه عندما أصبح الفرد العربي المسلم مستعدا لوضع ابنه –الميئوس من شفائه- في المصحة النفسية أو لوضع أبيه أو أمه في دار المسنين عندما أصبحنا مستعدين… وكاد عبيط القرية يختفي… حصل أمران:
الأول أن المفاهيم الغربية تغيرت واكتشف الغرب أن إبقاء المرضى النفسيين أو ذوي الإعاقة العقلية أيا كان نوعها في مصحات مخصصة خطأ فادحا، وأن أفضل ما يجب الوصول إليه هو أن يتعلموا كيف يعيشون وسط مجتمعاتهم وتتعلم المجتمعات كيف تستوعبهم، بل وتسن قوانين لضرورة توظيفهم في وظائف يعملون بالقدر الذي تسمح به الإعاقة، وثابتٌ علميا الآن أن هذا الوضع هو الأصح نفسيا واجتماعيا… وبالتالي يحاولون الآن في الغرب أن يفعلوا عكس ما أصبحنا مضطرين إليه نحن الآن، وهم -أي الغرب- في طريق الوصول لنفس ما كانت مجتمعاتنا عليه قديما وربما لأفضل مما كنا عليه كمجتمعات.... بينما نحن نسير واقفين ومشدوهين لا نفهم ما يجري!
وأما الثاني الذي يوضح الأول فهو أنه عندما أوصلت اللخبطة الشائعة في مجتمعاتنا الأمور إلى: أسر كثيرة متصارعة على الفوز بمكان تتخلى فيه عن مريضها، فإن المؤسسات –أو شكل المؤسسات- التي ينتظر منها أن تستوعب هؤلاء أصبحت عاجزة الآن عن استيعاب من لديها أي أصبحت تتقلص أصلا كجزءٍ من تقلص أجهزة الدولة –باستثناء الأمن- بوجه عام! يعني ببساطة شديدة نحن خربنا طاقة واستعداد الأسر والعائلات لاستيعاب مرضاهم ثم لم نتمكن من تقديم بديل بحق وحقيق!
أنا شخصيا أسكن مدينة الزقازيق وهي عاصمة محافظة الشرقية وقليلا ما تصادف عيني مثل ما تصفين (من يهوون جمع القمامة أو يسيرون عراة أو يسبون ويلعنون بصوت عالي) لكنهم موجودون وبالتأكيد أكثر في القاهرة، وأقول لك ربما مثلما تسرب أطفال الشوارع من بيوت أو دور أيتام حتى أصبحوا بالملايين، ربما يتسرب مرضى نفسيون أيضًا من البيوت والمستشفيات وهذا لن يكون نشازا في صورة مصر المخروسة.
تسألين عن تسرب لآلاف المرضى النفسيين في الشوارع...... وكل ما سبق من كلامي هو كلام عن أسباب الظاهرة التي تصفينها أنت ولم أرها أنا ولا أعلن عنها رسميا من وزارة الصحة.... لكن يا بنتي هناك احتمالان:
الأول هو الناتج الطبيعي لحالة الكركبة السائدة في أوضاعنا ومفاهيمنا هنا في مصر المخروسة وهو ما وصفت في المقدمة يعني هناك فعلا مرضى كانوا نزلاء مستشفيات نفسية ومصحات عقلية خرجوا منها إلى الشارع لأن أسرهم تهربت والدولة لم تعد تحتمل! عادي..... من أين؟؟
الثاني وهو الأقرب للصحة أو ربما عند الأطباء النفسيين... فالناس في الشارع -في القاهرة خاصة ويبدو أنك من سكانها والحمد لله أنني لست منهم حتى الآن- الناس في شوارع القاهرة ليسوا فقط مرضى نفسيين بل هم مرضى بلا استبصار أي لا يدركون أنهم مرضى، بينما أرى كثيرين من الناس عليهم علامات المرض النفسي ظاهرة –وربما أتهم بالمبالغة في تشخيص العلل النفسية- في الشارع والمترو والميكروباص... وفي الأزقة والحواري -وأنا من هواة المشي-، وهؤلاء حولنا في كل مكان، ليسوا بالضرورة نزلاء سابقين ولا بالضرورة نزلاء لاحقين في المصحات النفسية لكن ربهم أعلم بهم والحَذِقُ يفهم!
وهكذا أقول لك كلنا مرضى نفسيين أو نكاد.... فلماذا تقفين حضرتك وتسألين؟ العقلاء في هذا الزمان أخطر من المجانين فمن أي شيء أنت خائفة يا ابنتي؟ من الذين يسيرون عراة؟ طيب هل الذين تعرضهم الفضائيات لابسين؟ العري ربما لم يعد مخيفا وإنما مقززا هذا وذاك، تخافين من الذي يسب ويلعن بصوت عالٍ: هذا ساخطٌ علنا والملايين ساخطون سرا في سرهم يسبون ويلعنون فهل هو الصادق أم المجنون؟ تخافين من من؟
من الذين يجمعون القمامة؟ هؤلاء ربما فقراء وربما موسوسون وربما فصاميون مصابون بالفصام المزمن، وربما عقلاء جدا إلى درجة القرف من البلد والاعتراف بأنها مقلب قمامة كبير!
تسألين عن حلول وجريدتك اسمها الموجز؟ إذن فالحل الموجز هو: تطالب الجمعيات الأهلية بالقيام بواجبها... وربنا يسهل بالدعم الأجنبي ويضمن وصوله لمستحقيه!
يا ترى أصابك الاكتئاب المعرفي الذي أصابنا جميعا ؟
حاولت أن أبحث عن معلومات رسمية عن ما وصفته أنت بظاهرة فلم أجد، لذلك فضفضت قليلا معك يا ابنتي ومع المجانين العقلاء على مجانين، ولكن لنقل خير اللهم اجعله خيرا، وكل رمضان ونحن من الله أقرب وفي طاعته أصوب.
ويتبع >>>>>>: عقلاء الشارع أخطر من المجانين مشاركة
واقرأ أيضاً:
أبو الموسوسين العرب م / أثناء المشيِّ.... وفي المشي