اعتدت منذ سنوات أن أقطع المسافات مشيا على قدميّ... في نفس الشارع.. الطريق من وسط المدينة حيث أعمل عملي الخاص إلى حيث منزلي الذي أعيش فيه.. اعتدت المشي يوميا من بيتي إلى كلية الطب بالجامعة حيث أعمل ووجدت في ذلك المشي علاجا من ارتفاع ضغط الدم.. وفي الشارع دائما ملايين الأسباب لرفع ضغط الدم وربما ضغط الغضب على الأعصاب أيضًا، وربما غيرهما من الضغوط الجسدية والنفسية التي تناوب بني آدم ما عرفناه منها وما لم نعرف...
الشارع... ذلك الذي لم يبقَ على حاله طويلا... سنتان فقط أو ثلاث سنوات... ربما ما بين 1994 و1997... ومن بعدها وهو في تحوُّلٍ مستمر.
الشارع الذي لم يعد يصاحب أحدا.. حتى ولو كان يسير فيه يوميا مرتين على الأقل... أذكر في مراهقتي وشبابي الأول أنني صاحبت كثيرا من الشوارع والحارات والحدائق المفتوحة مثلا بين صفوف النخيل وعلى طول جدول صغير.... تقريبا منظر لم يعد موجودا في مصر لأنه كان عادة وسط المدن واجتاحته الديناصورات السكنية أو التجارية...
ما أسرع ما يتغير كل شيء في الشارع ليست المحلات ولا الأبراج ولا الديناصورات (التي تسمى أسواقا مركزية أو مولات)،... ليس هذا فقط ما يتغير ويتبدل بل إسفلت الشارع ومواضع المقبات والمطبات والحفر.... وليس فقط بل إن اتجاه السيارات في الشارع نفسه يتغير.. وكذلك أحوال الباعة المفترشين مساحات منه أحيانا في جنب من السيارات وكثيرا بين أرجل الماشين من أمثالي...
كل الأشياء تتغير في الشارع ولا ثابت إلا التراب الذي يملأ الهواء.. فلا نراه يتغير إلا من حيث كثافته أو كثافة الأتربة نسبة إلى دخان السيارات وفي مزيج من سباب الناس ماشين وراكبين.... ربما لو كنت في غير مصر مبارك لكان للشارع شكلا آخر..... لكننا الآن سيارات بعدد الماشين أحيانا وأحيانا تزيد... والماشون في مصر إما فقراء أو مثلي متريضون أو شباب يستمتعون بالمشي، أو يهتفون لأحد أندية كرة القدم... وهذا ممكن الحدوث في مصر مثلا في ليلة سقوط بغداد... من الشباب قطاعات مفصولة عن كل هموم آبائهم وربما بعض أقرانهم.. شارع مصري.
لكنني برغم أن الشارع لا يصاحب أحدا أصاحبه أنا وكثيرا ما أتأمل أحواله وتقلباته، وربما هذا الشارع وغيره في الزقازيق مدينتي ربما هو قدري وقد لا أجد مثله يصلح لما يصلح له هذا في بلدٍ آخر، أستطيع ربما أن أجد عديدا من الشوارع في القاهرة وإن تكن أقل ترابا –غالبا- وأكثر سيارات ودخانا... لكنه شارع والسلام وفيه أناس يمشون.
لعل أحد أسباب إحجامي عن السفر للعمل في إحدى دول الخليج هو ذلك الخوف من أفتقد الشارع الذي أمشي فيه محاطا بأناس يمشون مثلي، لكنني مثلا أعرف أنني لن أجد مثله في قطر ولا في البحرين ولا في السعودية فالشارع في تلك الأقطار الشقيقة شارع واسع نظيف بلا تراب –وإن شابته أحيانا رياح تحمل رمالا- ولكن النسيم غالبا نقي والشمس جدُّ حارقة... ولو تحملت كل هذا فإن المسافة قد تكون أطول من أن أرتجلها والمشكلة الأكبر أنني سأكون السائر المرتجل الوحيد غالبا... وما أوحش ذلك ما أوحشَ ألا تجد من تقول له السلام عليكم
الشارع فعلا يعكس وضع البلد والناس وفي مصر مبارك حيث اللا نظام –مستخدما أرق الأوصاف- هو سيد كل شيء وهو القيمة الوحيدة أكيدة التواجد والبقاء، وهو كذلك الوصف المنطقي غير الشاذ .. لذلك تجد الشارع بلا نظام.. وسبب اللا نظام ليس فقط وجود الماشين على أرجلهم.. ولا المقيمين في الشارع من الباعة وغيرهم إنما هو وجود الإنسان المصري المعاصر وهو كما تعرفون وكما ذكرت من قبل في مدونة الجهاز المركزي.... وصراحة لا أحب أن أتذكر ما قلت وما أطلقت من أوصاف على الإنسان المصري المعاصر لأنها تؤلمني وتحز في نفسي مثلما تحز في نفس كل مصري... لكنها الشخصية المصرية المهلهلة ربما بشدة انصهارها ومعاشرتها للواقع المهلهل.
واقرأ أيضاً:
عقلاء الشارع أخطر من المجانين/ عقلاء الشارع أخطر من المجانين مشاركة