تبدو الكتابة في موضوع علاقتنا بالحضارة الغربية من باب تحصيل الحاصل، لكن الجاري على الساحة بهذا الشأن، هنا وهناك، لا يطمئن أننا استطعنا أن نحصل الحاصل حتى، ولا أننا سوف نحصله قريبا!!! إن استمرار ارتفاع نغمة الهجوم على الحضارة الغربية، والحذر من البرمجة الغربية، والخوف من السيطرة الغربية، من ناحيتنا، في مقابل نغمة صراع الحضارات، والخطر الأخضر، والخطر الأصفر من ناحيتهم، إنما يشير إلى أن الحوار أصبح خارج التاريخ. حتى ما يسمى حوار الحضارات يجري أغلبه في اتجاه التلفيق والقص واللصق للحصول على تسوية سلمية، هي بمثابة فض الاشتباك أكثر منها جدلا خلاقا.
والله العظيم ثلاثا نحن في سنة 2005. لا أعرف ماذا يعنيه هذا الرقم عند كثير منا ممن لا يزال يردد أغنية كنا نغنيها أطفالا تقول "يا إحنا يا همه يا كوم الريش، همه يموتوا وإحنا نعيش"، لعل تخلفنا هو المبرر أن يتردد هذا المعنى بيننا وهو يتجلى في الوقوف على أطلال التراث مرة، أو في انفجارات تدميرية قاتلة عشوائية غبية مرات، لكن نفس المعنى (همه يموتوا وإحنا نعيش) هو هو الذي يحتل وعي من يملك المال والسلاح منهم حين يتجلى في الحروب الاستباقية، والقتل الجماعي، والتطهير العرقي بلا حرج. لا فرق بين اختزال حضارة الإسلام إلى هذا الغباء المتفجر قتلا، وبين اختزال حضارة الغرب إلى هذه الوحشية الدموية الإبادية تحت رايات التحرير الشكلي والديمقراطية الزائفة. كلاهما اختزال يعلن أقوال حضارة كل منهما وعدم أهليته -منفردا- للخطوة التالية نحو حضارة جديرة بتاريخ الحياة فالإنسان.
الحضارة المطروحة على الإنسان الآن بما حقق من تواصل وإنجازات عبر العالم لا يمكن إلا أن تكون كلية ونوعية. لم تعد مقولة "الشرق شرق والغرب غرب" صالحة للاستعمال الآدمي (الحضاري أو التطوري). لا فرق بين تعملق الصين الكمي المادي التراكمي، وبين سوق أمريكا الاستهلاكي التنافسي.
المواجهة الجارية الآن ليست بين الشرق والغرب، ولا بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، المواجهة الحقيقية هي بين الحضارة الكمية الاختزالية المنفصلة في مقابل الحضارة النوعية النابضة الكلية، بين تزاحم الإنجازات اللاهثة في مقابل تعميق الوعي البشري، بين التركيز على محاولات السيطرة على الطبيعة لاستعمال مواردها كأنها مجرد مخزن مواد خام في مقابل حتمية التناغم معها أملا في جدل خلاق مع الإنسان بوعيه الفائق.
من هنا يمكن القول أن الخطأ الأكبر هو أن ينساق كل فريق إلى معركة جانبية هو الخاسر فيها حتى لو كسبها. ما نسميه الحضارة الغربية وننبري للهجوم عليه وليس نقده، هو هو ما نروج له ونحن نتصور أنه حضارة إسلامية، مع أنه. ليس إلا جزءا كميا جمدناه في كم مغترب جاثم، إن اختزال الحضارة الغربية إلى ما يروجه بوش وبطانته، هو مثل اختزال الحضارة الإسلامية إلى تفسيرات لفظية مغتربة، وأحكام جامدة فوقية. كلا الموقفين هو موقف جزئي خائب انتهى عمره الافتراضي على مسار تطور البشرية.
الغرب ليس هو ما نصوره أو نتصوره ثم نهاجمه، هم ينقدون أنفسهم وهم يتجاوزون الجزء إلى الكل، وكان علينا أن نحذو حذوهم لا أن نعرض بديلا جزئيا أيضا موصى عليه ممن لا يهمه الأمر أصلا من المفسرين الأوصياء جمودا، حتى بعض الذين نقدونا من الداخل –مثل جارودي– هم غربيون أصلا.
التحدي الحقيقي أصبح فرض عين على البشر كافة: إما حضارة محتوية الجغرافيا والتاريخ معا حتى التاريخ الحيوي لبعض إيجابيات أخلاق الحيوان وتعاونه، وإما تشنجات جزئية مغتربة تتفجر هنا أو تبيد هناك.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 21-3-2005
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: كرامة الناس.. وكرامة الحكومة! / تعتعة الكبار بأغاني العيال (1-13) / وقال الإنسان: ما لها؟