في القصة القصيرة التي كتبها باتريك زوسكيند (مؤلف "العطر") بعنوان "وصية السيد موتسار"، قالت له بطن الأرض في كل مكان،: "إن العالم محارة تنغلق على نفسها دون رحمة" ثم قالت: "إن كوكبنا كله قد أصابه التلف بسبب المحار ومشتقاته" فانتهى السيد موتسار إلى خلاصة تقول "كوكب كهذا لا يمكن أن تستمر عليه الحياة" إلخ. ينبهنا هذا الإبداع منذ أكثر من عشر سنوات (1994) إلى ما آلت إليه حياتنا بشرا، وليس فقط ما آلت إليه أرضنا حركة عشوائية نشازا وتفجّرا.
فكيف استمعنا نحن إلى حديث كارثة الزلزال الأخير؟
حين تتبعت التعليقات العلمية والدينية على ما حدث جزعت جزعا بالغا. كعادتنا اختزلنا ما حدث إلى ما يؤكد موقف كل منا الشخصي الدفاعي المختزل من الدين والحياة والموت والعدل والظلم والمصير، هذا الاختزال الخطي السريع المسطح أصبح صفة غالبة على تفكيرنا: طغاة ومستضعفين، سلطات، وعامة، متقدمين ومتخلفين. لا فرق بين أن يتكلم بوش عن محور الشر، وأن يتكلم بن لادن عن الكفرة الأجانب. يتفق الفريقان على تفسير النص الإلهي بما يشتهي كل منهما. ندرة من العلماء والمتدينين يتابعون الإنجازات الأحدث لمناهل ومناهج المعرفة وتشكيلات الوعي وحركية الحياة.
إن غرور العقل، وتقديس العلم، وتجميد النص المقدس، كل ذلك قد أصبح قيدا على التفكير السليم، بل تهديدا لإمكانية استمرار بقاء الإنسان كائنا حيا جديرا بالاستمرار. تراوحت تفسيرات من النقمة على الظالمين إلى الانتقام من المنحرفين إلى عقاب المذنبين، وإن تطرقت في النادر إلى لوم تدفئة الأرض بعبث التكنولوجيا في قشرتها من خلال توسيع ثقب الأوزون وما أشبه.
إن من أهم آليات المعرفة التي تُمكننا من مواجهة مثل هذه المواقف الصعبة التفسير هو أن نحترم جهلنا دافعا لمزيد من البحث، وأن ننزه الله تعالى عن سطحية تفكيرنا، إذْ نحسن الإنصات للحدث في ذاته، ننصت للأرض وهي تحدثنا عن أخبارها، حدثتني الأرض بهذا الزلزال الأخير، مثلما حدثت السيد موتسار، قالت:
(أولا): إن العولمة الإيجابية أصبحت فرض عين على كل إنسان يقيم على هذه الأرض، فمن لم يتعلم من فرص التواصل بالنت والفضائيات، فليتعلم من الخطر المشترك.
(ثانيا): إن الغرور الذي يعيشه الإنسان المعاصر ليس له أساس من واقع الأرض على أرض الواقع.
(ثالثا): إن التفسير العلمي (شبه العلمي) للنص الإلهي هو الذي يفتح الباب للتفسير الديني للأحداث الطبيعية، وكلاهما خطأ بالغ.
(رابعا): إن الاستشهاد الانتقائي بآيات القرآن الكريم (أو التنزيل المقدس عامة) ينبغي أن يتم بأكبر قدر من الموضوعية والأمانة. وقد بحثت عن كل آيات الظلم، والهلاك، والفتنة، والانتقام، في القرآن الكريم فوجدت غير ما وجدوا، وأن القرى التي أهلكت لها شأن آخر في سياق آخر غير ما قالته هذه المساحة من الأرض التي زلزلت زلزالها الأخير.
(خامسا): إن أطماع فئة من البشر ربما أخلت من هارمونية الطبيعة بما في ذلك القشرة الأرضية ومن ثم أسهمت فيما حدث.
(سادسا): إن علم الله الذي ليس كمثله شيء لا ينبغي أن نتعامل معه – سبحانه وتعالى – وكأنه يفكر مثلنا ويعاقب مثلنا، ويعاند مثلنا،.... إلخ. وبعد........
متى نتحمل مسئولية الجهل المعرفي؟ ومتى نحسن الإنصات لمجريات الأمور قبل أن نسارع بتفسيرها؟ متى ننصت لسيمفونية الكون واحتمال نشازها دون أن نسارع بالتمسح في آية لم نفهمها، أو معلومة ناقصة المفروض أن تحفز لاستكمالها، لا أن تقف وصية على ما يأتي بعدها؟
نشرت في الأهرام بتاريخ 10-1-2005
اقرأ أيضا:
تعتعة الكبار بأغاني العيال (1-13) / في مواجهة انحراف الحضارات / المستحيلات الثلاثة