أسمح لنفسي بسهولة ألا أفهم ما لا أفهمه، وأجد في ذلك أملا في حقيقةٍ أصدق، بديلا عن الوصول إلى إجابات جاهزة خائبة أو زائفة. هذا الانتظار المثابـِر يجعلني لا أنسى القضايا المعلقة من أول قتل الرئيس ج. ف. كنيدي حتى اغتيال رفيق الحريري، مرورا باختفاء موسى الصدر. اعتراف بن لادن الخائب عن مسئوليته المزعومة عن أحداث 11 سبتمبر أضعه بين قوسين وأنا أتذكر أساتذتي القضاة يعلمونني أن: "الاعتراف ليس بالضرورة سيد الأدلة". اعتبرت اعتراف بن لادن مثل اعتراف جماعة الكلمات المتقاطعة: "الجهاد" "النصرة" "بلاد" "الشام"!!
حين يزداد عدم فهمي أحاول التعويض بأن أتقمص أطراف الحدث. أحيانا أتقمص القاتل والقتيل بالتبادل. حاولت مثل ذلك فيما نشر في أهرامٍ أول مارس: مقتل 150 مدنيا وإصابة 200 في مجزرة بالحلة، كان عشرات العراقيين يصطفون للحصول على شهادات طبية للتقدم لشغل وظائف حكومية، وقفتُ في الطابور، وفي يدي الأوراق وأنا خائف أن تكون ناقصة. أتذكر أمي العجوز وابنتي الصغيرة وأمها. سوف يسألونني عند العودة عن الشهادة، فالوظيفة التي قد تسمح لهم ببعض الخبز، وربما لبن الطفلة ودواء الأم.
فجأة أتطاير متمزقا في كل اتجاه أنا ومن مات معي، ألملمنا وأنا أحمد الموت الذي أعفاني من ألم نزع الأشلاء. أسمع تأوهات المصابين وأطرافهم تتطاير حولي دونهم. أطنان المفرقعات القاتلة لم تهبط من السماء من طائرات العدو الذكية وإنما تفجرت من جوف أرضنا نحن، بفعلنا نحن. أنظر في حطام السيارة فإذا بعض بقايا كتل شاب غض، معجونة في دماء أشلائه، أجمعها فأسألها: هل تعتقد أنها سوف تتجمع في الجنة؟ من قال له هذا؟ كيف اقتنع؟ لا تردْ.
حين كانت وفاء إدريس تفجر نفسها في محتلي أرضنا كنت أعجز أن أتقمصها لأنني أشعر أنني أقل شرفا من تضحيتهاْ. لا يوجد دين عبر التاريخ ولا على ظهر الأرض يعد هذا الشاب بالجنة على فعلته تلك. قد نعرف قاتل كنيدي أو الحريري يوما، وقد نقبض مقابل دم وفاء الطاهر سلاما أو أرضا أو شرفا أو حضارة. أمّا دوافع هذا الشاب واحتمالات الإفادة من فعلته فهي أبعد عن الفهم والتقمص جميعا.
لا تتوقف قدرات تقمصي عند القاتل والقتيل، فأتمادى لأتقمص الأعداء: أتقمص الشامتين الفرحين بما نفعل في بعضنا البعض وهم يبررون لأنفسهم تماديهم في القتل والإبادة. أتقمص الانتهازيين وهم يتاجرون في أنقاض البشر وأحلامهم وآلامهم معا، فلا أفهم. لكن يظل تقمص هذا الشاب الذي قتلنا دون أعدائنا هو المستحيل الأول.
يقفز المستحيل الثاني ليعدل الكفة في محاولة الحيلولة دون اليأس نتيجة ما يجري هكذا، يقفز ليقول: إنه من المحال أن يستمر مثل هذا العبث على الجانبين أكثر من ذلك، لأن عمره الافتراضي قد انتهى. إنه ضد قوانين البقاء، إلا إذا كان النوع البشري في سبيله للانقراض.
أما المستحيل الثالث (أو الذي كان مستحيلا) فهو أكثر إشراقا وأقدر وعودا بدأت تتحقق، ذلك أن المتابع لإنجازات البشر الإيجابية عبر العالم سوف يرى أن ثم علم جديد يقفز فوق العلم المؤسساتي والعلم التقليدي، علم "قليل التكلفة" يقوم به الشخص العادي (سبع تجارب قد تغير وجه العالم: روبرت شلدرايك)، كما أنه سوف يصله كيف أن مناهج وأدوات المعرفة في طريقها للتكامل: تكنولوجيا المعلومات مع الفن والفلسفة، الذاتي مع الموضوعي، الخيال مع الواقع، البيولوجي مع اللغة (د. نبيل علي: تكنولوجيا المعلومات وتطور العلم).
هكذا يواجه الإنسان الرائع القادر كل سلبيات العبث والدمار وهو يتحدى الانقراض.
نشرت في الأهرام بتاريخ 7-3-2005
اقرأ أيضا:
تعتعة الكبار بأغاني العيال (1-13) / في مواجهة انحراف الحضارات / ... لو أقسم على الله لأبرّه!!