في أوائل ملحمة الحرافيش محفوظ "بادرت فلة تفتح النافذة وهي تقول:
- كيف يلقاك الناس يا عاشور؟
فقال بتحدٍّ كاذب:
كلٌّ يعمل بإيمانه. (انتهت الفقرة)
لو سألنا محفوظ الآن نفس السؤال: "كيف يلقاك الناس يا محفوظ"، فهل يجيب إجابة أخرى؟
قلت في عدد سابق (الأهرام 15 ديسمبر 2005)".. ما عاد رسم الحرف يقدر أن يحيط ببعض ما يوحيه لي، في عيد مولدك الجميل، فجرُ جديد..."، فإذا كان الأمر كذلك منذ عامين، فلا بد أنه زاد حتى العجز حالا، تذكرت قصيدة صلاح جاهين التي بدأها بقوله: "في يوم من الأيام راح أكتب قصيدة.."، وأنهاها"..حاكتبها وإن ما كتبتهاش أنا حر، الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة" قلت قياسا أن "..المحب ما هوش ملزوم بالتهنئة". لماذا كل هذه الاحتفالية المعادة؟ ولكن: هل هي معادة؟
محفوظ قرر أن يعيش حين قرر أن يدرب يده ليعود للكتابة، ثم حين رضي أن يملي بعد أن عجزت يده حتى عن الشخبطة. وحين قال إن كتابة أحلام فترة النقاهة هي حياتي، وأنها إن توقفت توقفت الحياة، كان يعلن ذلك. شيخنا هو الذي قال في الحرافيش "الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه". اكتشفت منذ أسابيع وأنا أجاهد نقد قصة هانز كريستيان أندرسون (بائعة أعواد الكبريت الصغيرة) أن الموت وعي بيني، وعي بين وعيين، بين الوعي الفردي المحدود، والوعي الكوني المفتوح النهاية. حين تتواصل حلقات دوائر الوعي الممتد (ربما مثل محفوظ) يصبح لا معنى للحديث عن الموت العدم. محفوظ قرر أن يستمر حين شعر "بنغبشة" الإبداع قبيل كتابة الأحلام، وجد أنه ما زال عنده ما يقوله، فاستأذن رب العالمين، فأذن له، ألم يقل لنا ربنا أن من عباده من هو أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبره؟ أقسم محفوظ على الله أن يستمر ما دام نور إبداعه ما زال قادرا أن يضيء ولو زاوية محدودة من جبال الظلام الجاثمة.
كنت أقرأ له قبل النشر مقالا كتبته عن السيناريوهات القادمة، كان عنوان أحدها: "السيناريو شبه المستحيل"، أنهيته منبها القارئ لمدى شطحي أنه: ".. لا تفزع، قلنا شبه المستحيل، الله!!! كدت أشطب "شبه"، قاطعني شيخي بغضب محب، لماذا؟ إياك أن تشطبها، طمأنته أنني لم أفعل، وأن الجملة الكاملة كانت للقارئ كالتالي: "لا تفزع، قلنا شبه المستحيل، الله!!! كدت أشطب "شبه" لكنني عدلت". قال لي ، نعم، هكذا، الحمد لله أنك عدلت، حسنا فعلت. يا خبر يا شيخنا!!! حاضر.
في لقائه مع إريك شميث كاتب رواية مسيو إبراهيم وظهور القرآن (محمد سلماوي الوفد 30 نوفمبر 2005) سأل محفوظ شميث "كيف وصلت إلى الصوفية" فأجاب "عن طريق الموت" وذكر حكاية عن توهة في الصحراء ينتظر الموت، حتى وجد الله فالإيمان. ثم أردف شميث "ودعني أقول لك إن كتاباتك كانت إحدى وسائلي في التعرف على الصوفية" وبرغم إنكار محفوظ لصوفية الذاتية (وهذه علامة المتصوف الحقيقي) إلا أنه لم يستطع أن يمنعها من أن تتجلى في إبداعه، وهل تختلف تجربة عمر الحمزاوي في الشحاذ في الخلاء عن تجربة شميث في الصحراء، وهل يمكن ألا يحسن أحد قراءة نهاية الشحاذ التي تقول "..إن كنت تريدني فلم تركتني"؟
شيخي الجليل: سامح أنانيتنا ونحن نطلب منك البقاء عاما فعاما، لكن الظلام شديد، ونحن مازلنا في أمس الحاجة إلى ما تيسر من نور الحق تعالى عبر إبداعك.
نشرت في الأهرام بتاريخ 12-12-2005
اقرأ أيضا:
في مواجهة انحراف الحضارات / المستحيلات الثلاثة / عدل الله ورحمته بلا حدود