شاع استعمال تعبير "أطباء بلا حدود"، و"صحفيون بلا حدود"...الخ فلماذا نسينا أن الأصل هو أن عدل الله ورحمته هما بلا حدود؟ لماذا ننسى بديهيات تعيننا على تصحيح ما يلقى في أدمغتنا مما يخالف فطرتنا التي فطرنا الله عليها، فيخالف المنطق والصالح والصحة؟
حين تسرقني مشاعري إلى حيث لم أعتَدْ، أتركها دون وصاية لعلي أعرف آخرتها، تجرني هذه المشاعر أحيانا إلى أفكار وتساؤلات جديدة غريبة، تماما مثل مرضاي في بداياتهم، خاصة الذين تسمونهم "مجانين" تلصقون بهم ما تيسر مما نعجز عن تفسيره، مع أن بعضهم ما جُنَّ إلا لأنه اكتشف التفسير الأعمق، لكنه للأسف عجز عن حمل مسئوليته.
كنت أجلس وزوجتي في مطعم ما على شاطئ الإسكندرية، بدأت أسهم بعيدا عنها، فظنّت –كعادتها- أنني نسيت أنها معي، نبهتني أنني أطيل النظر إلى مائدة بجوارنا، وهذا غير لائق، رددت بأنني فعلا رأيت منظرا عجيبا بجوارنا، لم تسألني عما رأيت. أنا الذي طلبت منها أن تلتفت لترى ما أرى، فرفضتْ حتى لا تجرح الآخرين، واصلتُ أنبهها إلى أنني أعرف غرابة، وخطأ ما سأقوله: "تصوري أن جارنا يمسك بلفافة عجيبة المنظر، يسحب منها دخانا أسودا إلى رئتيه، ثم يعود ينفثه في الهواء".
ابتسمتْ ولم تعقب. "الرجل يدخن سيجارة، ماذا في هذا؟"-أنا الذي أقول- ؟!!". أعرف كل تبريرات وتأويلات المدخنين وحججهم، وأتابعها علما وممارسة (فالتدخين –علما- أصبح من صريح الإدمان). لم أفلح أبدا أن أكون مدخنا برغم أنني دخنت سيجارة أو أكثر يوميا من سنة 1954 إلى سنة 1974، كان تأثير أول سيجارة مثل آخر سيجارة. حتى سقطت من يدي وأنا أستغرب ماذا أفعل. لم أتمادَ في إزعاج زوجتي لكنني سألت نفسي دون حرج: كيف يُجمع الناس على عمل كهذا طوال هذه السنين بكل هذا الانتشار ثم أعيد اكتشاف أنني لم أفهمه أبدا، أنا أعرف كيف أروض هذه المشاعر والأفكار حتى لا تكون نهايتي مثلهم (مرضاي).
نحن لا نندهش ينبغي أن يُدْهِش لمجرد أنه انتشر وشاع، مهما أضر وسخُـفَ. كسل العقل، وخوف المراجعة، يجعلنا نستسلم لما هو أولى بالدهشة، وهو كثير، خذ مثلا: هذا العاقل جدا الذي هو "مِلء ملابسه"، وهو يفترض في الله سبحانه وتعالى ما لا يليق بقاض عادل، أو حتى ما لا يليق، مع أن مثل هذا الافتراض الذي أتعجب منه يردده معظم فقهاء الدين، وأغلب أئمة المساجد، وقساوسة الكنائس. هؤلاء وأولئك يرددونه بينهم وبين ناسهم، مع أنهم يتشدقون بقبول الآخر علانية وأحضاناً!. كيف يفترض كل هؤلاء أن الله سبحانه بكل رحمته وعدله سيدخل أحد مخلوقاته النار، لمجرد أنه لم يقتنع برأي يخالف ما وُلِدَ فوجد نفسه فيه؟ بل إن بعض هؤلاء العقلاء جدا يتمادى حتى يصدق فتوى تقول: إن من كان يعتقد معتقده ثم عدل عنه: جزاؤه القتل!!! أستغفر الله لي ولهم، ثم ألملم نفسي بتذكر فتاوى في اتجاه طيب معاكس، وأنا أستدعي يقيناً لا يتزعزع بعدل الله ورحمته.
تمر بي مشاعر مشابهة تجاه من يجمع مالا لن يصرفه (مثلي غالبا)، أو تجاه من يقوم بـبحث علمي جدا هو على يقين بعدم جدواه، خصوصا بعد أن يكون قد ترقى في المناصب الأكاديمية فلم يعد يحتاجه لمزيد من الترقي، كذلك أتعجب حتى الشفقة من ذلك الذي يحرص على سلطة مهولة لا يكف عن الاستزادة منها، مع أنها لا تدعه ينام نوما هادئا ولا ليلة واحدة.. إلخ إلخ.
إعادة النظر في الشائع، حتى لو أجمع عليه كل الناس، هو بداية طيبة نحو توثيق علاقتنا بالحق الموضوعي إلى وجه العدل سبحانه وتعالى بكل رحمته: وسِعَتْ كلَّ الناس طول الدهر.
نشرت في الأهرام بتاريخ 22-5-2006
اقرأ أيضا:
المستحيلات الثلاثة / ... لو أقسم على الله لأبرّه!! / العدل والجمال في مواجهة الإرهاب