ما دام الأمر كذلك، فثم خطأ جسيم في مواجهة ما يسمى "الإرهاب"، الخطأ ليس محليا، بل عالميا، وربما كونيا. وضع السيد دبليو بوش تعريفا خصوصيا للإرهاب، وراح يتصور أنه بغزوه أراضى الغير، وقتله الأبرياء من باب الاحتياط، وقهره حتى مواطنيه مؤخرا بقوانين التجسس والتصنت، يحارب ما عرّفه بالإرهاب. في نفس الوقت تتسطح فيه كل التفسيرات والتعاملات النفسية والأمنية مع الإرهاب فلا يحدث إلا أن يزيد معدله باضطراد. ثمَّ خطأ جسيم، ونمضي نحن في مزيد من الأخطاء دون أن نتعلم من فشلنا.
الخطر الذي يحيق بالعالم اليوم أصبح غير قاصر على مكان بذاته، أو فئة مارقة شاذة بعينها، الخطر أصبح حقيقة ماثلة تهدد الإنسانية كافة: المجرم والضحية، المشارك والمنسحب، المتهم والبريء. التواصل بين المظلومين والعميان عبر العالم ليس أقل سرعة ولا فاعلية من التواصل بين العلماء والإعلاميين، مظاليم العالم وعميانه ومجرميه يدعون بعضهم بعضا للتعاون على القتل والإرهاب، ما دمنا قد عجزنا عن التعاون على البر والتقوى.
لكي نبادر بالتعاون على البر والتقوى ضد الإرهاب علينا أن نقوم بإحياء قيمتين أهملناهما حتى ضمرتا: قيمة العدل وقيمة الجمال. هذا ليس شعرا، بل سياسة وربما اقتصادا، الشاب الذي يفجر نفسه في الأبرياء دون تمييز، لا يعرف، لم يتعلم، لم يمارس، لم يبلغه، لا أن العدل قائم، ولا أنه قادر أو قادم يوما ما ليرفع الظلم عنه وعن ذويه، كما أنه أصلا لم يبلغه أن معايشة الجمال هي عبادة في ذاتها، وأنها ضد القتل/القبح بالذات.
أعمال بوش في العراق، ودعما لظلم وإرهاب إسرائيل، ثم مؤخرا في أمريكا نفسها، لا يمكن أن تقاس أصلا بمقياس العدل أو الجمال إذا هي ضدهما تماما. ما دام الأمر كذلك علينا أن نتوقع أن ينشأ الشباب عبر العالم وليس أمامه إلى أن يمارس القبح فيه وفي غيره، فلا تعود للحياة قيمة، لا له ولا لغيره، ويتفجر الإرهاب.
حتى الجنون، الذي نلصق به خيبتنا بين الحين والحين، يتبادل مع الجمال حين يستوعبه صاحبه. الفيلم الذي يحكي عن جون ناش العالم الرياضي (جائزة نوبل سنة 1996)، والذي كان مصابا بفصام بارنوي، لم يحُلْ فصامه دون إتمامه إنجازاته. لم يدفعه فصامه لإزهاق روح، أو حمل سيف، أو تشريح أجساد جماعة، اسم الفيلم "عقل جميل". ألهمني أن أبحث عن معنى آخر للجمال، ووجدته في جمع أشلاء وفاء إدريس وهي تدافع عنا (الأهرام في 8-4-2002)، ثم عاودني نفس معنى الجمال وأنا أتمزق ألما بعد اغتيال ذلك الشيخ أحمد ياسين وهو عائد على مقعده بعد صلاة الفجر، وإذا بروحه تتهادى حرة طليقة دون حاجة إلى مقعد وهي تدعو لنا. أي جمال!! (الأهرام 5 أبريل 2004)، تم هذا الاغتيال هكذا وأمريكا تضع تعريفا آخر للإرهاب يستثنى قتلته الذين قرروا ذلك علانية في اجتماع مجلس وزراء دولة عضو بالأمم المتحدة!! ثم هنئوا بعضهم البعض بعد التنفيذ.
كنت في دهب قبل الحادث بيوم، وراجع لها اليوم (يوم كتابة هذه السطور 27 إبريل)، راجع أعتذر لها بعد أن عشت في خليجها قبل جرحها بيوم واحد خبرة شخصية هي أصل ما أكتب الآن، في ذلك اليوم السابق للحادث بعد عوم بطيء خرجت من البحر يغمرني شعور جسدي غريب لم أجد له ألفاظا تحتويه إلا أنني "مليء بالمعرفة" دون فكرة محددة، شعور لا يوصف بالنشوة، ولا العرفان، ولا الفرحة، ولا الانتعاش، لم أفهم ما هذا. لكن حين حدث كل ذلك القبح بعد يوم واحد، فهمت كيف أن هذا الشعور هو أقرب شيء إلى العدل والجمال، وأنهما السلاح الوحيد القادر على قهر التعصب والإرهاب، داخلي وخارجي، وعبر العالم.
كيف توصلين يا دهب هذه الرسالة –بفضل الله- إلى شبابنا الجائع إلى العدل، الجاهل بالجمال؟
نبحث معا، وسوف نفعلها،
أو ننقرض.
نشرت في الأهرام بتاريخ 8 – 5 - 2006
اقرأ أيضا:
... لو أقسم على الله لأبرّه!! / عدل الله ورحمته بلا حدود / خيانة العلم والشعر