حين كتبت في الأهرام (30/5/2005) عن "أينشتاين شاعراً"، هاتفني د. نبيل على مثينا على ما كتبت، ففرحت بشهادته وهو مَنْ هو في المعلوماتية، والثقافة، واللغة، لكنني حين عدت للمقال وجدت به شيئا ناقصا، في الاتجاه الآخر وهو: كيف يكون الشاعر عالما بدوره؟، كيف يكشف ويضيف للمعرفة؟ وليس فقط كيف يشرق في الوعي والوجدان؟
فجأة قفز إلى وعيي ذلك العمل الهائل الذي قام به الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في جمع السيرة الهلالية، قلت له ذات مرة إن هذا عمل يعجز عنه الأكاديميون للحصول على الدكتوراه وما بعدها، ولم أنتبه ساعتها إلى فضل شاعريته التشكيلية على تنظيم رؤيته التوثيقية المتقنة هكذا.
ثم أنني فوجئت به مؤخرا ينحت قولا غير مأثور بجرأة غير مسبوقة وهو يقول: "العلم كالشعر إذا خنته مرة واحدة خانك إلى الأبد"، ثم يضيف: هذا القانون من وضعي وليس لأحد ممن سبقوني" يا خبر يا عبد الرحمن، كيف وصلت إلى هذا بكل هذه الشجاعة والوضوح: هكذا خبط لصق، هذا شعر آخر.
تساءلت وأنا أصدقه: كيف عرف بحدس إبداعه أن حمل أمانة العلم أو الشعر تصل إلى هذه الدرجة من المسئولية فقالها بهذه الروعة المتحدية. كان ذلك بمناسبة الجدل الذي دار ويدور حول حادث بني مزار المؤلم والغامض.
نعم، يوجد خونة للعلم، بوعي أو بغير وعي، هم خونة حين يخدمون التجارة العملاقة والشركات إياها، بالتفرغ لأبحاث براقة لا تخدم إلا التجارة والتكاثر الاستهلاكي أو الإهلاكي. أبرز مثال لذلك ما تفعله شركات الدواء حتى يصل بها الأمر أن تبرمج عقول الأطباء (الصغار، والكبار بالسلامة) ليخدموا أسواق الشركات، وليس صحة المرضى.
خيانة أخرى يمكن أن تكون مثالا أوضح وهي سوء استعمال ما يسمى الطب النفسي السياسي أو علم النفس السياسي حين يسخر العلم ليس فقط لتأويل الأحداث الكارثية، وإنما لتبريرها أو لغسيل المخ أو قلب الحقائق أو وصم المخالفين للنظام بالجنون، أو لمّا يتسطح تناول أمر ما: استسهالا أو استعجالا، بوعي أو بغيره حين يأخذ بعضهم معلومة مبتَسرة من هنا، أو قولا مرسلا من هناك، لتعميم الحكم على أمور لا يحسمها إلا القضاء النهائي بعد ردح من الزمن.
الطب النفسي بالذات، والطب النفسي الشرعي تحديدا، ينبغي أن يتحرى وهو يصدر أحكاماً عامة على أحداث عامة، مشتبه فيها مَنْ بِهِ شبهة مَرٍضٍ ما، كل حادث متفرد في ذاته، وكل متهم ليس كمثله أحد، مهما توحد التشخيص، لابد أن نتناوله في حدود المعلومات المتاحة الموثقة، وما أقلها للإعلام، ما أغمضها وأصبعها عند الفحص المباشر العميق.
على العالم أو الأخصائي أن يتذكر طول الوقت مَنْ يخاطب؟ ولماذا؟ وأين؟ هل هو القاضي؟ أم القارئ العادي؟ أم زميل مشترك في نقاش علمي..الخ.
في كل هذه الأحوال: صمت العالم والأخصائي هو مسئولية وأمانة، مثله مثل كلامه سواء بسواء.
كذلك الشعر حين لا يكتفي بأن يأبى أن يكون نظما راقصا، أو دغدغة لذيذة، أو تحريضا صارخا، فيتحمل مسئولية تفكيك اللغة وإعادة تركيبها صورا تتحرك أنغاما تعيد تشكيل الوعي البشري، فهو يحمل أمانة الخالق المبدع. في ندوة "اللغة وتشكيل الوعي العام" التي عقدتها لجنة الثقافة العلمية بالمجلس الأعلى للثقافة (مارس 2005) وكنت مع د. نبيل على مسئولا عنها قدمت ورقة بعنوان "حركية اللغة بين الشعر والشارع"، حمّلت فيها الشاعر مسئولية احتضان الشارع واحترامه بشطحاته العشوائية، حتى يحتويه بتصعيده في شعره الجميل، وهذا بعض ما يفعله الأبنودي، هذا هو الجهاد الأكبر لترشيد وعي ناسنا ما أمكن ذلك.
لعل وعسى.
نشرت في الأهرام بتاريخ 6-2-2006
اقرأ أيضا:
عدل الله ورحمته بلا حدود / العدل والجمال في مواجهة الإرهاب/عن الغضب، والحزن، والفرحة، فالمسئولية!!