في برنامجٍ ما، من تلك البرامج التي لا أعرف مدى فائدتها، سألتني المقدمة: كيف يجتمع الحزن مع الفرح مع الغضب في وقت واحد كما هو حادث لناس مصر حالا. الحزن لضحايا كارثة الباخرة، والغضب لإهانة رسولنا الكريم تحت زعم الحرية، والفرحة بكأس أفريقيا لكرة القدم للمرة الخامسة. أجبتها أنني لا أرى في ذلك تناقضا برغم ما يبدو ظاهرا، إن النقيض لهذه المشاعر مجتمعة هو البلادة، واللامبالاة، الشعب (أو الفرد) الذي يستطيع أن يفرح هو الذي يستطيع أن يغضب هو الذي يستطيع أن يحزن. سألتْني: لكن هل يمكن أن يجتمع ذلك في نفس الوقت؟ توقفت قليلا لأن السؤال كان أكثر تحديدا وتحدّيا، لكنني وجدتني أجيب بالإيجاب أنه يمكن. قالت، أو لعلها قالت: وكيف كان ذلك؟
أتذكّـر حيرتي العلمية منذ سنة 1971 أمام طبيعة العواطف (الوجدان) وتطورها، كتبت آنذاك فرضا عاملا (مشروع نظرية) عن تطور الوجدان من التهيّج البيولوجي العام، إلى "المعنى"، وما زلت أراجع هذا الفرض، وأختبره، وأنقحه حتى الآن. تأكدتْ لي بعض جوانب هذا الفرض من خلال إنجازات العلم المعرفي الأحدث، حيث أصبح التعامل مع الجسد والعواطف هو تعامل الشريك الكامل في المعرفة، وفي القرار، وفي المسؤولية.
تُعامل العواطف الآن باعتبارها برامج معرفية موازية للتفكير، برامج قادرة على التعبير والتغيير. إذا نحن تعاملنا مع ما ظهر منا من غضب وحزن وفرحة باعتبارها طاقات فجة تم إطلاقها أو تفريغها للترويح أو التنفيس أو التحريض فحسب، فنحن نتكلم لغة علمية قديمة ربما تسمح بالسؤال: "كيف يجتمع هذا مع ذاك؟" أما العلم الأحدث فهو يقول: أن التوظيف المعرفي للوجدان إنما يلتحم ويدعم ما يناسبه من النشاط المعرفي للتفكير، بما ينشأ عنهما من قرار مناسب قابل لاختبار التطبيق، ثم للتحقق بالتنفيذ فالمتابعة، إذا حدث ذلك فإن هذه الوجدانات الثلاثة (الحزن، والغضب، والفرح) يمكن أن تتضافـّر في اتجاه معرفي ضامّ، يخدم القرار فالفعل. الفروق بين هذه العواطف هي من حيث النوع واللون والتعبير، وليس من حيث المعرفة والتوظيف،
مثلا: إذا أبلغـَنَا الحزن على ضحايا الباخرة افتقارنا للإتقان، وأبلغتنا الفرحة بالإنجاز الكروي قدرتنا على الإتقان، ثم أبلغنا الغضب لإهانة رسولنا واجبنا نحو توصيل رسالته بأن الإتقان طاعة لله، فأين الاختلاف إلا في نقطة الانطلاق ولون التعبير؟
حتى في نقطة الانطلاق يمكن أن تجتمع هذه المشاعر قريبة مع بعضها إذا تكلمنا من منطلق مفهوم الزمن الأحدث. إن واقع وحدة الزمن التي ينتقل بها أينا من إحدى هذه المشاعر للأخرى قد يتناهى في الصغر بحيث لا يصل إلى وعينا الظاهر، لأنها (هذه العواطف) تتبادل -لا تتزامن- إلا إذا حسبناها بزمن الوعي العادي (الدقائق أو الساعات كما نعرفها).
صحوة الوجدان هكذا أثبتت أننا لسنا جثثا هامدة، وما لم تُـستثمر تلك الحيوية بتجلياتها المتنوعة في فعل حقيقي ممتد، فالخوف أن يظن الشاكّين فينا أنها كانت تشنجات محتضر، لا حيوية بعث.
الغضب لرسول الله عليه الصلاة والسلام إن لم ينقلب حافزا للإبداع ولتجاوز الجمود لنقول لهم –بالفعل وليس بالصياح أو الانتقام- أنه لا نحن ولا رسولنا كذلك، والحزن إن لم ينتهي إلى تغيير جذري يقضي على كل برامج الغش والاستسهال والتقريب من أول امتحانات الابتدائي حتى البحث العلمي مرورا بشهادات الأمان والجودة، والفرحة إن لم تكن حافزا على تعميق حقنا في إطلاق لحن الجسد، ورقص الجدان، يشاركان في النمو والمعرفة دون ترهيب أو تأثيم أو تقزيم، إن لم يحدث ذلك، فسوف نعود إلى البلادة واللامبالاة، أكثر كسلا وتقاعسا.
هي مجرد علامة على أننا ما زلنا أحياء، وعلينا أن نثبت أننا أهلٌ لها: الحياة.
نشرت في الأهرام بتاريخ 20 – 2 - 2006
اقرأ أيضا:
العدل والجمال في مواجهة الإرهاب / خيانة العلم والشعر / الفجوة..، والمقاييس!!