إذا كان علينا –موضوعيا– أن نعترف بالفجوة الرقمية والحضارية والعلمية والجامعية التي بيننا وبينهم، فإن من حقنا أن نراجع المقاييس التي يقيسوننا بها.
أنا أستاذ جامعي منذ أكثر من ثلاثين عاما، أعلم ما آلت إليه جامعاتنا سواء في التدريس أو البحث العلمي، ناهيك عن الإبداع والنشر العالمي، فحين أنبه إلى ضرورة التوقف عن إطلاق هذه الصرخات النعّابة، والتعليقات الساخرة ونحن نناقش موقع ترتيب جامعاتنا بين جامعات العالم، لا أدافع عن إنجازات وهمية أو أزعم أن ظلما قد وقع علينا بهذا الترتيب المتدني، فأنا أعلم تمام العلم أننا لم نصل حتى إلى المرتبة التي وضعونا فيها. برغم كل ذلك فإنني أرفض نصب هذا المعزى بهذه الصورة التي لا تعلن إلا الشعور بالدونية أو حتى بالذنب دون حفز أو أمل.
هل ثم سبيل آخر لمواجهة هذا الواقع المر؟
إذا كانوا هم يسيرون بسرعة خمسين كيلومترا في الساعة (أو في الثانية) فنحن نسير بسرعة خمسين مترا في اليوم أو في السنة، فالمسافة تزيد باضطراد ما دمنا على نفس الطريق بنفس النظام، نقاس بنفس المقاييس. علينا –إذن- أن نتوقع أن يتراجع ترتيبنا باستمرار سواء فيما هو دون صفر المونديال، أو ترتيب الجامعات أو عضوية مجلس المنظمة الدولية الجديدة لحقوق الإنسان.. إلخ. ومع ذلك فقد يحق لنا أن نتعاطى بعض المسكنات –لا المخدرات– ونحن ننفخ في إنجاز شاب مصري حقق بطولة في الاسكواش أو في المصارعة، أو حين نتملى في النظر إلى عضلات فتاة مصرية صغيرة ترفع الأثقال، أو نتيه فرحا بكأس الأمم الأفريقية، وننسى أنها إنجازات محدودة متباعدة وفردية غالبا. هذا التسكين –على أية حال- هو أفضل من أن نستغرق في اتهامهم بأنهم السبب في تخلفنا الذي نصر عليه، وكأنه غاية في ذاته، نبرر به شعورنا بالاضطهاد والمؤامرة.
السبيل الآخر، الذي هو ليس بالضرورة هروبا أو تبريرا أو دفاعا، يبدأ بمراجعة المقاييس التي قيّموا بها ترتيب الجامعات (كان أشهرها الترتيب الصيني:جامعة شنغهاي)، فنلاحظ أن المعايير الموضوعة قد لا تكون أنسب المعايير التي علينا أن نحرص عليها للوفاء بشروطهم، لأن كثيرا منها مقول بالتشكيك، من أول شرط النشر العالمي حتى جائزة نوبل نفسها.
واقع النقد المنهجي الجاري على مستوى العالم، ومن الشرفاء عندهم قبلنا، ينبه أن "العلم أخطر وأنبل وأهم من أن يـُـترك للعلماء"، وأن "المعرفة أكبر من العلم وأشمل". لم يعد التقدم المأمول، من البشر وللبشر، مهمة الجامعات ومراكز الأبحاث دون سائر الناس. الشخص العادي مدعٌّو عبر العالم للإسهام في توسيع وسائل وأدوات المعرفة، بل وفي توجيه مسار وعطاء العلماء. أغلب العلماء الآن –في كثير من بقاع العالم– بوعي أو بغير وعي، يُستعملون لأغراض غير علمية، حتى وصل الأمر في بعض المجالات (السلاح والدواء مثلا) إلى أن يُبَرْمَجُوا كوقود للسعار الكمي، والحياة الاغترابية والمزيد من العملقة الاحتكارية على حساب تطور الإنسان كنوع، له كل هذا التاريخ الرائع.
أنا لا أنكر قيمة ودقه المقاييس السائدة، لكنني أنبه إلى ضرورة البحث عن طريق آخر، هو بالضرورة أصعب جدا، طريق ألمحتُ إليه مرارا قبل ذلك، طريق يبين كيف يمكن أن نستلهم من ثقافتنا وتاريخ، وتاريخ الإنسان، ما يهدينا إلى منهج آخر، وسبيل آخر، وقيم أخرى، ومقاييس أخرى، ونوعية للحياة مختلفة، لعلهم أحوج ما يكونون إليها معنا، ومثلنا، طول الوقت.
أمل بعيد، لكن بغيره، لن نحقق حتى أن نكون أدوات مصقولة، تقع في قاع جراب الآلات التي يشحذونها لتحقيق أغراض مغتربة، لم يعلن عن تفاصيلها، بخبثٍ أو بغفلة.
الدعوة عامة، والتحدي شامل، والأمل قائم، وفرض المعرفة هو فرض عين على كل واحد من البشر على ظهر الأرض دون استثناء.
هذا هو شرف الوجود وغايته معا. "وكلهم آتيه يوم القيامة فردا".
نشرت في الأهرام بتاريخ 17-7-2006
اقرأ أيضا:
خيانة العلم والشعر / عن الغضب، والحزن، والفرحة، فالمسئولية!! / .... طغيان الظـُلم، ونيازك الظلام!