بعد كل الذي حدث من الأقصر إلى نيويورك إلى لندن، مرورا بأفغانستان فالعراق وأسبانيا وتركيا، ثم شرم الشيخ، خيل لأغلب المعلقين أن المسألة أصبحت أكثر وضوحا، مع أن الأمر عكس ذلك تماما. لم تعد المسألة إرهابا في مقابل غارات إبادية استباقية شاملة التدمير، بل هي إرهاصات حرب عالمية في شمولها. هي الأولى من نوعها والأخطر احتمالات في مآلها.
كتبت منذ أكثر من ربع قرن (الأخبار 5 ديسمبر 1978) بعد الانتحار الجماعي الذي جرى في الغابة الحمراء قرب سان فرانسيسكو "… إذا كان الانتحار الفردي والجنون الفردي صيحة إنذار يطلقها الفرد بأعلى مرضه وشذوذه، فإن الانتحار والقتل الجماعي ينبغي أن يؤخذ باعتباره اختراقا لحاجز الإغماء الجماعي والاغتراب..." إلى أن قلت: "لعلنا نستيقظ.. من خلال هذه المشاركة العالمية، لندرك الفشل المحتمل لأي حل فردي أو ثللي أو ديني متعصب".
تطورت المسألة بعد أكثر من ربع قرن فلم يعد الأمر قاصرا على انتحار بضع عشرات في غابة نائية تحت تأثير قس متأله (جيمس جونز). الجاري الآن هو إنذار بمحنة بشرية تطورية شاملة. الحرب الحقيقية ليست بين بوش وبن لادن، ولا بين بلير والزرقاوي، كل هؤلاء يقعون على جانب واحد من المعركة الحقيقية التي تهدد الجنس البشري برمته. العراك الدائـر الآن هو محاولة تصفية عمياء بين نفس فصائل قوى الظلم الطغيان الأعمى (الشركات قبل المؤسسات الحاكمة) في مواجهة نيازك الظلام البشرية الساقطة عشوائيا على من تيسر من عباد الله. ضحايا هذه التصفيات برغم دعاوي التحرير من جهة، وفتاوي التكفير من جهة أخرى، هم الأبرياء، أكثر من قتلى أفراد المتناحرين، يحدث ذلك بالإضافة إلى ما يلحق القيم البشرية الراسخة (مثل العدل والتراحم) من تشويه وإزاحة. هذا القتل المنظم بالحروب الاستباقية والقنابل الذكية مع السماح بقتل الأبرياء في بيوتهم دون محاكمة، يقابله قتل الأبرياء جماعيا بعد برمجة الشباب الغر وشل عقولهم، وتخدير مشاعرهم، وهما وجهان لعملة واحدة.
الخطورة فيما يجري تكمن في أن الصراع الجاري تحركه قوى مجهولة، وأن أدواته من الجيوش على ناحية، والانتحاريين على الناحية الأخرى ليسوا سوى مخالب التنفيذ. الجيوش تحركها المافيا والشركات، والشباب الانتحاري يحركهم العمى الظلامي والبرمجة المغتربة.
الحرب المقدسة التي ينبغي أن يستعد لها كل واحد منا ليبدأ في أخذ دوره فيها هي حرب ضد هذين الفصيلين معا، إن التهديد الذي يمارسانه معا هو ضد الحياة وضد البشر كافة، دون استثناء الظالمين والظلاميين أنفسهم.
آن الأوان ليستعد كل الأحياء من البشر لمواجهة حرب التهديد بالانقراض. التكنولوجيا الأحدث تسمح بالتواصل بين كل الأحياء الذين يهمهم الأمر.
آن الأوان لنتوقف عن اختزال الظاهرة إلى ما هو بن لادن أو بوش. وأيضا عن تعميم الظاهرة بسطحية سببية خائبة لمجرد أنها انتشرت هكذا.
آن الأوان للكف عن الاكتفاء بالفرحة بالشجب واللعن والأغاني "الممكنة" والخطب والتبرير والتظاهرات والمؤتمرات، اللهم إلا للنفخ في النفير لإعلان الحرب الحقيقية المقدسة.
الحق سبحانه وتعالى هو العدل، وما لم يستشعر الناس، كل الناس، من كل الأعمار والأقطار أن كل أنواع الفيتو قد توقفت، وأن رأس المال قد أصبح أقل شراسة، وأن أي متهم في أي مكان يحاكم قبل قتله، وأن المرضى يعالجون برغم شركات الدواء وليس لخدمة رؤوس أموالهم، وأن فرص الإنتاج والإبداع قد تقاربت، ما لم يصل إلى وعي الناس في كل مكان كل هذا أو أغلبه، فلا أحد يمكن أن يحمي الأطفال والشباب من تسليم عقولهم لقوى الظلام في مواجهة غطرسة الظلم، واستهبال مقاومة الإرهاب.
نشرت في الأهرام بتاريخ 8-8-2005
اقرأ أيضا:
عن الغضب، والحزن، والفرحة، فالمسئولية!! / الفجوة..، والمقاييس!! / إبداع الحياة... والإبداع السياسي!