لم يعد تعريف الإبداع مسألة أكاديمية بحتة، كما لم تعد تنميته تتم بتدريبات مواهب قلة من الناس، وأيضا لم يعد استعمال مفهوم الإبداع قاصرا على عمل فني أو أدبي أو حتى كشف علمي، الإبداع الأهم هو طريقة في الحياة، طريقة متاحة لكل البشر، وهو فرض عين على كل واحد منا دون استثناء.
الأمر يحتاج إلى تعريف يصف الإبداع في الحياة اليومية، وليس في تشكيل خارج عنها، يتم مثل هذا الإبداع إذا توفرت شروط (خطوات) ثلاثة،
أولا: موقف نقدي وتفكير نقدي.
ثانيا: مرونة الفعل مع إمكانية التنويع على أرض الواقع.
ثالثا: قراءة النتائج، فإمكانية المراجعة للتطوير.
هذه الخطوات الثلاث ليست تعريفا أكاديميا، بل إنها مظاهر يمكن أن ندركها مباشرة في الفعل اليومي.
نحن نراها في سلوك طفل يكتشف لعبته، وفي سلوك فلاح يروي أرضه بطريقة جديدة، وفي سلوك تلميذ يحفظ قصيدة رغما عنه، فيتململ منها، لكنه يحفظها، فتختمر داخله، فيعيد صياغتها ولو بعد حين.
هذه الخطوات نراها هي هي في عبقرية عالم مكتشف، أو سياسي مقتحم،.. إلخ.
خلاصة القول: إن الإبداع اليومي يحتاج قدرا هائلا من الالتزام (دون اختناق) وقدرا أكبر من المعلومات (دون الغرق تحت موجاتها المتلاحقة)، كما أنه يحتاج إلى أشجع الاختراق (دون تسرع) وأحكم المراجعة (دون تردد). فهل يا ترى يمكن أن ننتبه إلى كل ذلك، أو إلى بعض ذلك في الوقت المناسب بالقدر المناسب: في التربية والتعليم، والزراعة والتدين والسياسة والرياضة والإنتاج؟
الموقف النقدي هو الموقف الذي يرفض التسليم دون النظر، وهو الذي يعيد ليعدّل ويضيف في كل مجال. المرونة فالوعي الأعلى هما السبيل لإبداع الحياة الذي بعض مظاهره إنتاج فني أو كشف علمي. لكن الأصل يظل دائما أبدا هو 'إبداع الحياة' ذاتها في الفعل اليومي ليل نهار حتى النظريات الأحدث لظاهرة "الحلم" تقول إن الحلم إبداع يومي لكل البشر بغض النظر عن محتواه أو تفسيره. إذا كان الأمر كذلك، فهل ثم إبداع في السياسة؟
تنشأ الحاجة للإبداع في السياسة حين يكون المعروض حالا: من قيمها، ومفاهيمها، وقواعدها، وقوانينها، وأساسياتها، قد عجز عن الوفاء بحاجات الناس عبر العالم "الآن". الأمر الذي هو بمثابة إعلان انتهاء العمر الافتراضي للمطروح على الساحة.
ظهرت معالم بعض ذلك مؤخرا بشكل واضح، مثل:
(1) أزمة الديمقراطية الحالية عبر العالم: لا الديمقراطية المطروحة عادت تكفي ولا يوجد بديل جاهز
(2) الحل الرأسمالي التكاثري المتمثل في طغيان الولايات المتحدة الشركاتية العملاقة : لم هو يشبع الجوعى ولا هو يسعد الأثرياء،
(3) انهيار اشتراكية الاتحاد السوفيتي، لا هو أنهى التاريخ لصالح الرأسمالية، ولا هو أجهض حلم الاشتراكية عامة
(4) تدخل الدين في السياسة سرا وعلانية، حتى مع ادعاء العلمانية، لا هو استعاد للدين الرسمي دوره الإيجابي، ولا هو قدم منهجا حقيقيا يجدد الإيمان إذ يطرح نوعية حياة إنسانية جديدة، أكثر تناغما وتواصلا وإبداعا.
كل ذلك يعلن أننا في أزمة ولادة جديدة، لقيم جديدة، وبالتالي علينا أن نبحث ونشارك في تخليق اجتهادات بلا حدود، في كل المجالات بما في ذلك السياسة. هل يمكن أن نعي ذلك لنسهم فيه؟
الإجابة: نعم يمكن، أو على الأقل: هو أمل مطروح، وفرصة سانحة.
أقول قولي هذا وأنا مرعوب من استغلال ذلك لتبرير التمسك باختلاف شكلي، أو التأكيد على استمرار سلطات جامدة، أو ظهور "كتاب أخضر" أكثر اخضرارا.
نشرت في الأهرام بتاريخ 27-6-2005
اقرأ أيضا:
الفجوة..، والمقاييس!! / .... طغيان الظـُلم، ونيازك الظلام! / الزمن والسياسة والموت!