في ملحمة حرافيش –نجيب محفوظ- كان الوعي بالموت هو حفز الحياة، وكان وهم الخلود في هذه الحياة الدنيا (ممثلا في جلال صاحب الجلال) هو الموت نفسه. لست متأكدا إلى أي مدى يسمح الواحد منا، أو يستطيع، أن يستوعب ما هو "زمن" حقيقي إيجابا وسلبا. أحسب أن "محطة الموت"، وحدة الوعي بها كحقيقة لا جدال فيها، هي من أهم المعالم التي يمكن من خلالها أن نعرف أن ثَمّ زمنا يمضي، وأنه كما قال الشيخ درويش: في خاتمة زقاق المدق (محفوظ أيضا). أليس لكل شيء نهاية، بلى لكل شيء نهاية ومعناها بالإنجليزية "end وتهجيتها e n d".
أستسمح القارئ أن يصحبنا قليلا بأكبر قدر من الخيال، لا، أكثر من أكبر قدر قليلا، لا، لا، أكثر كثيرا، لنقرأ معا هذه الأرقام: التقريبية، لكنها علمية: عمر الكون هو 9- 20 بليون سنة، وعمر الأرض: 4-6 بليون سنة، وعمر الحياة على الأرض 1-2 بليون سنة، وعمر الإنسان كما نعرفه هو 600 ألف سنة، أما جذور السلوك الطقسي الأشبه بالتدين فيرجع إلى 300 ألف سنة، ثم إن اللغة – كما نعرفها- لم تنشأ بداياتها إلا منذ 100 ألف سنة، في حين أن عمر الأديان السماوية العظيمة هو أربعة آلاف سنة، أما عمر العلوم الحديثة فهو 200 سنة، وعمر العلوم الأحدث جدا هو خمسون عاما لا أكثر.
هل ما زال القارئ بعد قراءة هذه الأرقام يتمتع بمثل نفس الغرور الذي كان يخفيه عن نفسه قبل أن يقرأها، وهل يمكن لمتدين فاضل، أو عالم جهبذ، أن يتعصب لما هو فيه جدا جدا وهو يراجع هذه الأرقام؟
أتصور -أو آمل- أن يستفيد من الوعي بهذه العلامات (وليس مجرد قراءتها، أو حتى حفظها) كل عالم، وقائد، وحاكم، وفقيه، ويائس، ومتعجل، وعاشق، وثائر، وعادي!!
أقوال كثيرة، وحِكَمٌ عديدة، وأمثال عامية سائرة، ومغزى أحاديث شريفة، وإبداعات مخترقة، وأبيات شعر وأساطير خالدة، تشير جميعا إلى نفس ما يفيده الوعي بهذه المعلومات، ومن ذلك كأمثلة: "يا مستكتر الزمن أكتر"، أو "اصبر على جارك السو يا يرحل يا تجيله مصيبة تاخده" أو "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر" أو"يا ظالم لك يوم" أو "الله –سبحانه- يمهل ولا يهمل...، وكذا "ولكم أقول غداً أتوب، غداً غداً والموت أقرب" ... الخ.
المتابع لحركة الشارع السياسي هذه الأيام، لا بد أن تصله رسالة تقول: إن ثمة حركة حقيقية، وأملا يلوح، وتغير محتمل، وتغيير وارد، لكن متعجل النتائج لا بد أن تساوره شكوك من احتمال الإجهاض تلقائيا أو بفعل فاعل، أو أن يوئدوا المولودة (الحرية) قبل أن يشتد عودها، أو أن يتم تغيير الأسماء دون الأحوال، أو غير ذلك مما هو محبط ومؤلم. هذا المتعجل معه حق في لهفته، لكنه ليس من حقه أن ينسى أن الزمن هو لصالح الخير والبشر والتطور والإبداع طوال التاريخ. صحيح أن أحياء كثيرة انقرضت (الأغلبية انقرضت، ولا أريد أن أذكر النسبة المئوية خوفا على روح التفاؤل في هذه المقالة)، لكن صحيح أيضا أن من تبقى من أحياء –ومنها الكائن البشري – يصارعون الشر، والهلاك وقوى الإبادة، والعمى طول الوقت، وأن الزمن في صالحنا.
"أما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" (الرعد:16)،
"ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين" (القصص: 5).
نشرت في الأهرام بتاريخ 22-8-2005
اقرأ أيضا:
.... طغيان الظـُلم، ونيازك الظلام! / إبداع الحياة... والإبداع السياسي! / فلسفة جديدة للحياة!! كيف؟