من حق القارئ أن يرفض هذا العنوان، فكلمة فلسفة –كما شاع عنها للأسف مؤخرا- تبدو له أنها "كلام لا لزوم له"، كما أن كلمة "جديد" أصبحت لا تحمل له أي جديد، أتصور وقع العنوان على مواطن طابور الخبز، أو موظف يعد مرتبه ليدبر الأقساط المؤجلة لمدرس ابنته الخصوصي، أستطيع أن أسمع همسهما: "نحن في ماذا أم ماذا؟". العنوان ليس من عندي. هو مقتطف (ص 97) من كراسة علمية (المكتبة الأكاديمية) بعنوان "تكنولوجيا المعلومات وتطور العلوم" لمؤلفها د. نبيل على، صاحب السبق وحامل هم المعلوماتية واللغة العربية والعرب.
كتلميذ مجتهد: اعتبرت الكراسة بمثابة "مرشد الطلاب إلى الطريق الصواب"، والطالب هنا هو الإنسان المعاصر، والطريق الصواب هو استيعاب منجزات العصر دون الانخداع في الإفراط المعلوماتي. راح د.نبيل يحذر: "... كلما تقدم العلم أصبحت مخاطر تطبيقه أكثر جسامة، مما يلزم إجراء تجاربنا واختبار قراراتنا على المستوى الخائلي قبل أن نخاطر بتطبيقها في دنيا الواقع..." وينهي هذه الفقرة بأمل في لقاء ما بين المادي والرمزي"... وهو ما لا يتطلب فلسفة علم جديدة فقط، بل فلسفة جديدة للحياة بأسرها".
أفرح بالدعوة ودلالتها، لكنني أدرك لفوري مدى المخاطر لو أصبح العالم الخائلي بمثابة معمل تجارب للعالم الواقعي، لا لأن هذا خطأ في ذاته، ولكن لأن الذي يملك مقومات تطبيق هذا الحلم هي الشركات العملاقة المشبوهة التي لا يهمها من استعمالات التكنولوجيا والعلم إلا ما يملأ خزائنها، ويسخّر حكومات العالم لمصالحها، هذا ما يحدث في عالم صناعة الدواء وصناعة السلاح وغيرها. أعلنها بصراحة: إن الأدوية الآن تُجَرّب تحت زعم اختبار فاعليتها قبل استعمالها في الواقع، لكن الحقيقة أن الهدف شديد الوضوح. إن كل التمويل البحثي لا يهدف إلا لإحلال أدوية أقل فاعلية، وأكثر نعومة، وأبهظ ثمنا (مئات المرات) محل أدوية أرخص وأكثر فائدة، لمجرد تحقيق ربح أكثر (أنظر كتاب:"حقيقة شركات الدواء" تأليف أ.د. مارشيا أنجل رئيسة تحرير مجلة من أشهر المجلات الطبية الأمريكية لسنوات، صدر سنة 2004).
نعم، نحن في حاجة إلى فلسفة جديدة للحياة تربط الخيال بالواقع. النظرة المعرفية الأحدث للخيال تقول: إن الخيال واقع آخر، واقع لازم ملزم. إن المعلوماتية هي إحدى تجليات الواقع الظاهر فقط، كل الأحياء تطورت بدونها من واقع قوانين واقعية: نفس هذه القوانين مازالت تعمل فينا، ولها وسائلها للحضور متبادلة، أو مشتملة: في الحلم، والممارسة اليومية إبداعا، والدين الشعبي، والإيمان الحقيقي، والوعي التصوفي بين الناس. نحن نهمش كل ذلك أو نسميه أحيانا خيالا لمجرد بعده عن جدول ضرب العلم المؤسسي والمعلوماتية. لكنه يفرض نفسه علينا في تشكيلات إبداعية رائعة. علينا أن نتعامل مع كل ذلك باعتباره واقعا آخر يتجادل مع واقعنا الظاهر الجاهز. نحن نحتاج إلى التكامل مع الطبيعة امتدادا إلى المطلق، بدلا من محاولة تسخيرها لصالح فئة قليلة انفصلت عنها، حتى ضاعت وأضاعتنا.
صرخة د. نبيل علي في محلها، لكن علينا أن نضيف إليها ما يجعلها واقعا في مقدورنا نحن، لا حكرا عليهم، علينا أن نعرف من يتحكم في عالمنا اليوم من قوى خبيثة سرطانية. على كل منا أن يقوم بدوره الخلاق في إدارة عالَمه الشخصي فالعالم. هذا ما يجري فعلا، خاصة بعد اتساع آفاق المعرفة، وتزايد أعداد الناس العاديين الذين يمتلكون أدواتها، وعلينا أن نتجمع معا لنصنع فلسفة جديدة للحياة.
ويا حضرات الحكومات، كونوا معنا لا مع الشركات، فهي لن تنفعكم، ولن تنفع حتى نفسها وأصحابها على المدى الطويل.
نشرت في الأهرام بتاريخ 13-6-2005
اقرأ أيضا:
إبداع الحياة... والإبداع السياسي! / الزمن والسياسة والموت! / أينشتاين