الخطر الحالي الذي يشغل من يخاف على إنسانية ناسه، وهو ينهى البشر عن قهر بعضهم، كما يشغل من يخاف لقاء ربه، وهو ينهى النفس عن الهوى، هو أن نسلم أمرنا لنظام يعوق حركيّة السعي إلى الحق سبحانه وتعالى، لا فرق بين أن تأتي هذه الإعاقة من داخله أو من خارجه. المطلوب هو تأمين حقيقي ضد التدخل في مسيرة وحركية البشر كما خلقها الله، وهو أمر قد يكون ميسورا ونحن نعارض قانون الطوارئ أو سلطة الرقابة الصادرة من حكومة مرجعيتها القوانين التي وضعتها، لكن الأمر يختلف إذا كانت المرجعية لمفسرين احتكروا فهم الإنسان بتفسير النص الإلهي في حدود قدرات عقولهم المحدودة أو المغلقة أو المتوقفة عن الإبداع والاجتهاد.
.... انتهى المقال الماضي بتساؤل يقول ".. هل الإيمان طاقة؟ أم فطرة؟ أم سعي كياني إبداعي؟ أم بند في برنامج نائب إخواني..الخ؟ وهل هو مرادف للدين؟ أم للإسلام؟ أم للإخوان؟".
الإيمان يفيد امتلاء الوعي سعيا إلى الله عز وجل "عبر كياننا-إليه" بلا حدود .الإيمان ليس مرادفا للدين (آية: قالت الأعراب آمنا..)، كما أنه ليس معتقدا فكريا نصل إليه بالمنطق والبرهان العقلي الخالص. المتابع لتواضع تراجع دور العقل في المعرفة (العلم المعرفي) لا بد أن يخجل وهو يفخر بأن دينه هو "دين العقل"، لأنه بذلك يختزله (نفس الحكاية بالنسبة للتفسير العلمي للوحي الإلهي..الخ). الإيمان هو عملية معرفية إبداعية مشتملة يساعدها (ولا يحل محلها) معتقد متسق، وعبادات نقية، بلا وصاية سلطوية ملاحقة. هو حركية توجه فطرة الله إلى أصلها، بالتسبيح والإبداع وكل شيء، يختلف تسبيح الإنسان لربه عن تسبيح الجبال والطير والنبات، الإنسان يفعلها بوعي نسبي وإرادة فاعلة، ومن ثـَمّ مسئولية محددة. قمة الرحمة لتأكيد هذه الوصلة بين وعي البشر والملأ الأعلى هو ما أنزله الله تعالى على الرسل عليهم السلام من وحي اختلف باختلاف الموقع الجغرافي والتاريخي لكل دين. حتى قرر سبحانه أن يكون الإسلام خاتم هذه الرحمة بهذا التنزيل المباشر، لا ليتوقف الإبداع الكدح نحو وجهه تعالى، لكن -كما يقول شاعر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال- ليتحمل كل إنسان (وليس فقط كل مسلم) مسئولية مواصلة سعيه إلى الحق تعالى عبادة واستلهاما وإبداعا.
من هذا المنطلق يصبح استغلال بعض الساسة لهذه الطبيعة البشرية (التهمة التي توجه للإخوان)، أو استبعاد ساسة آخرون لهذه الطبيعة البشرية (التهمة التي توجه للعلمانيين) هو من قبيل سوء الاستعمال أو التشويه أو التقزيم أو الانحراف بمسيرة الإبداع الواعد بالتطور البشري المفتوح النهاية.
المسألة إذن ليست في المقارنة بين نماذج الإسلام السياسي التركي، أو النميري، أو السعودي، أو الأفغانستاني، المسألة هي في ترجيح النظام الذي يحافظ على إطلاق حركية فطرة الإنسان إلى مداها، إلى خالقها، نظام يحترم الدين الرسمي، لكنه لا يخضع لفتاوى الأوصياء عليه، كما يستلهم الدين الشعبي والدين الثقافي والدين التصوفي، حتى يوفر أكبر مساحة لحركية الإبداع/الإيمان.
النظام (أي نظام) الذي نحتاج إليه هو الذي يلتزم أن تكون مرجعيته هي مواصلة السعي إلى الحق تعالى باستلهام كل المتاح إبداعا، جنبا إلى جنب مع استلهام النصوص المقدسة بنفس الجهاد الأكبر، تلك النصوص التي أنارت وعي الناس عبر التاريخ.
هذا هو النظام الذي يمكن أن يتطور به الإنسان ليتحقق في رحاب الحق تعالى إلى ما لا نعرف من غيب واعد. أما النظام الذي يجعل مرجعيته سلطة دينية من خارجه، تسمح لنفسها بوضع حدود لحركية الإيمان الإبداع، فهذا هو الخطر كل الخطر.
"إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين".
نشرت في الأهرام بتاريخ 9-1-2006
اقرأ أيضا:
فلسفة جديدة للحياة!! كيف؟ / أينشتاين / عن السلطة والإيمان والدين