اعتدت -كلما أتيحت لي الفرصة- أن أقرأ مسودة مثل هذا المقال على بعض أصدقائي أو صديقاتي أو تلاميذي أو حتى مرضاي في العيادة (هم أصدقائي وصديقاتي جدا وأولا). فعلت ذلك مع مسودة المقال الذي كنت سوف أرسله بدل هذا الذي أكتبه الآن، وإذا بصديق شاب اعتدت ألمعيته، يعلن أنه لم يفهم، فعرضته على صديقة في العيادة اعتدت رفضها لأغلب ما أكتب في الصحافة، فجاء احتجاجها حادا وهي تتهمني بالالتباس والزيغ، ثم تعلن خوفها من خطورة ما يمكن أن يصل إلى الناس مما قلت في تلك المسودة.
الذي أكمل على تلك المسودة البائسة هو أنني حين قرأتها -كما اعتدت-على شيخي نجيب محفوظ وبعض الحرافيش الاحتياطي (بعد أن سرح الحرافيش الأصليين بالسفر عن هذه الأرض أو هذه الدنيا أو هذا اللقاء) عقب بأن الفكرة لم تصله. يا خبر!! إن لم تكن قد وصلت نجيب محفوظ فلمن تصل إذن؟ اعترض الصديق الثاني على مراجعتي لمقولة "الدين لله والوطن للجميع" لأنه يعتبرها مسلمة لا ينبغي المساس بها، في حين تحمس الثالث للمراجعة حين نسبت الدين والوطن جميعا لله والناس جميعا، دون أي سلطة دينية أو دنيوية. تذكرت ثورة الصديقة الثائرة العنيدة، وتغابى الصديق الشاب الألمعي.
رجعت أراجع المسودة، وجدت أنني كنت قد حاولت فيها أن أنبه أن دعوة الفصل بين الدين والسياسة برغم وجاهتها، قد مورست خطأ ولصالح الأخبث، كما أن دعوى وصاية الدين على السياسة هي بنفس الخطورة وألعن. حاولت أن أنبه أن مجرد إعلان الفصل، دون فصل حقيقي، ليس كافيا بدليل أن ما يمارس في السياسة أمام صناديق الانتخاب، هنا وهناك، هو ليس إلا استغلال حاجة الناس (الأساسية أو حتى البيولوجية) للإيمان الذي يتجلى في الأديان كلها، هذا الاستغلال يجري سرا وعلانية حين يحصل المرشح على الأصوات وكأنه يمثل الله سبحانه أو على الأقل يمثل ما أنزل الله، وأيضا حين يستغل مرشح آخر حاجة الناس إلى رضا الله، فيلعب لعبته السياسية وكأنه وكيل رب العالمين المكلف بتحقيق ذلك، ثم يأخذ أصوات خلقه ليسخرها ضد كل ما لوّح به.
ذكرني أحد الحرافيش الاحتياطيين أن مقالي هذا سوف يظهر يوم شم النسيم. يا خبر!!! كيف نسيت وأنا لي علاقة خاصة جدا بهذا اليوم سواء بالبيض الملون أو بالبصلة الخضراء التي كانت تضعها أمي تحت الوسادة لأفاجأ بها بمجرد استيقاظي: وهات يا خضرة وهات يا ناس، وهات يا جري، وهات يا حب، معا. هذا عيد له خصوصيته عندي بقدر ما له خصوصيته عند كل المصريين. انتبهت من خلال ذلك الذي حضرني ماثلا أمامي بطول سبعة عقود، أن الناس الحقيقيين الطبيعيين هم الناس الذين خلقهم الله لا أكثر ولا أقل، وأنه مهما طال القهر، أو تمادى الخبثاء على الجانبين من استغلال حاجاتهم الفطرية، وأيضا مهما حاول المنظرون أن ينظـّـروا، ومهما ادعى المتحاورون أن يزعموا قبول الآخر بلا آخر، ومهما صرح البابا الجديد بالانفتاح على العالم، في نفس الوقت الذي يعلن فيه "نهاية دكتاتورية النسبية"، مهما حدث ذلك وغيره، فالناس يمارسون حياتهم معا كما خلقوا: في الحدائق، وعلى الشواطئ، وفي الملاعب، وفي الحقول والمصانع والمدارس، كل ذلك في رحاب الله، يمارسونها معا أشرف وأصدق من كثير من الساسة، ومن أغلب الأوصياء على تفسير وحي الله، وأيضا من المنظرين المتقعرين كما بدا لي أني أحدهم حين أعدت قراءة المسودة البائسة.
وكل عام، والناس كما خلقهم ربهم معا، وهم يكدحون إليه كدحا ليلاقوه، بدءا من "هنا والآن": يوم شم النسيم.
نشرت في الأهرام بتاريخ 2-5-2005
اقرأ أيضا:
الخوف من إعاقة السعي إليه. / عن السلطة والإيمان والدين / سدرة المنتهى والتنمية العربية