فجأة، وجدت نفسي غارقا في "تقرير التنمية الإنسانية العربية" لعام 2004 "نحو الحرية في الوطن العربي"، ذلك أنني مدعو للمشاركة في مناقشته في الندوة المغلقة التي تعقد اليوم بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. توقفت عند فقرة النهاية بعنوان "سدرة المنتهى"، فلم أدرك مغزى العنوان، رحت أبحث عن "جنة المأوى" في التقرير فلم يقفز إلى ظاهر وعيي إلا حديث عن "الثقب الأسود" و"الخراب الآتي"، أما الثقب الأسود فالتقرير يعني الحكومات العربية باعتبارها "ساحة لا يتحرك فيها شيء، ولا يفلت من إسارها شيء"، أما "الخراب الآتي" فالتقرير يعني به تداول السلطة بالعنف المسلح. أين سدرت المنتهى؟ فقرة النهاية هذه مليئة بألفاظ رنانة من أمثال.. "وهل من غاية أنبل من مجتمع الحرية الذي تنتفي فيه جميع ألوان الانتقاص من الكرامة الإنسانية، مجتمع لا يفتقر فيه كائن واحد إلى أي من احتياجاته الأساسية المادية والنفسية والروحية وتنفتح أمامه دوما طاقات الرقي الإنساني!!!!!"..هل هذا التعميم الحالم هو سدرت المنتهى في تقرير رسمي تساهم فيه الأمم المتحدة؟!!.
هو تقرير وصفي جيد مليء بالأشجان والأرقام، حالم بالنبل والكرامة، يقرر أنه: لا توجد حرية حقيقية في كل البلاد العربية، وأن الأمل بعيد، وأن الاستعانة بقوى مساعدة خارجية مقبول كحل مرحلي. شعرت بخطر ما برغم الجهد: خشيت أن يعنينا هذا الوصف المحكم عن الجدل الخلاق على أرض الواقع، خشيت أن نطرب لهذه الأرقام والأصوات الخطابية فلا نتحرك جدا نحو الوعي العام الحقيقي لتحمل المسئولية معا. الشائع أن التشخيص هو حتم سابق لنجاح العلاج، لكن هذا ليس صحيحا، حتى في الطب: كثيرا ما نتوقف مبهورين بلذة الوصول للتشخيص دون أن نستوعب عجزنا عن العلاج.
كثير من المسلمات والأرقام والعبارات الواردة في التقرير تحتاج مراجعة. مثلا رحت أتقمص المجيب في استطلاع الرأي عن الحرية في البلاد العربية. سؤال: "إلى أي درجة تعتقد أن... "كذا أو كيت" مرتبط بـ"مفهومك الشامل عن الحرية"؟ (أي والله!!)، بحثت شخصيا عن مفهومي الشامل عن الحرية، فلم أتبينه...الخ
بعيدا عن التفاصيل، عندي شك شخصي غامض في موضوعية، وأحيانا جدوى، مثل هذه النشاطات الدولية الكمية الممولة مهما حسنت النوايا. افتقدت إغفال المصادر الأقدر على كشف وعي الناس الحقيقي في مرحلة تاريخية بعينها، ومن أهمها: الناتج الفعلي لما يسمى الحرية في أي صورة إبداعية، سواء نشرت أو ظلت مسودة، هذا أمر شديد الارتباط بالحرية السياسية. ثم إنه قد غمرني خوف حقيقي أن تلهينا حبكة التقرير وجمال إخراجه عن حقيقة الثقب الأسود الأخطر الذي يدير دفة العالم سرا وعلانية، إنها الشركات الأخطبوطية العالمية المسئولة عن إجهاض أي إبداع سياسي حقيقي، وأي إصلاح اقتصادي، وأي حرية خلاقة، هو دوامة عملاقة تهدد استمرار النوع البشري، وليس فقط حرية المواطن العربي.
وصلني أيضا كيف يترادف التقرير أحيانا بين الديمقراطية والحرية، كما افتقدت التفرقة بين حرية الإبداع في ذاتها، وحرية التعبير عن ناتجة، علينا ألا نستسلم للأرقام والألفاظ دون الرجوع إلى عمق الوعي من واقع الممارسة، إن ما يصلني في عيادتي مثلا عن الغش في الامتحانات، وعن الاقتصاد الشعبي العشوائي الذي يسير حياة الناس رغما عن الحكومة، وعن العصيان المدني بالذهاب للعمل دون عمل، وعن اللغة الشبابية، وعن التنازل عن التفكير والخوف منه، وعن لا مركزية نشاط النت، هو من أهم ما نحتاج لإدراكه منهجا لنحقق هدف التقرير النبيل، لكن: لا الأمم المتحدة، ولا الصندوق العربي للإنماء، ولا برنامج الخليج العربي، ولا أحد، مستعد للتمويل.
ذاهب أنا (والقارئ يقرأ هذه الكلمات) إلى الندوة للمناقشة. لعلي أخطأت.
نشرت في الأهرام 16-5-2005
اقرأ أيضا:
قيمتان ... وقيمتان، والروبوت البشري / .. شم النسيم.. / إذا عرف السبب زاد العجب!!