نبذة: (أخر مقال لم ينشر بعد) تفنيد يرسم حياتنا تبعا للسببية الحتمية التي آلت إلى تبريرية تأمريه لا أكثر.
لا يوجد سبب (ولا أكثر) مسئول عن ظاهرة واحدة بذاتها. لم تعد المسالة هكذا، ولا هي كانت عمرها كذلك. بقدر ما أفاد الفكر الفرويدي في كشف بعض أغوار النفس البشرية فقد أضر، هو وسوء فهمنا له، حين رحنا نعلي من دلالة ما يسمى "الحتمية السببية": بمعنى أننا نصر على تفسير كل ما حدث أو يحدث بسبب محدد حدث عادةً في الماضي. هذا على المستوى الفردي في الماضي (وهو ما شاع عندنا باسم العقدة النفسية). يحدث مثل ذلك في السواء أيضا، وفي كثير من الدراما والمسلسلات التي تصر على العقدة وحل العقدة وتسخر الحكاية للتبرير والتفسير...الخ.
إشكالية المعرفة المعاصرة لم تعد ترتبط بكم ما نحصل عليه من معلومات (فهي كثيرة وتتكاثر بأسرع من قدرة أي شخص على ملاحقتها). قيمة المعرفة الآن هي في مدى مصداقيتها، وجدوى فائدتها. هذه المراجعة تجعلنا نعيد النظر في القول الشائع "إذا عرف السبب، بطل العجب" – ذلك لأن معرفة ما يسمى سببا قد يثبت أنه مجرد تبرير أو تسويغ لما حدث، ومن ثم ينبغي تحديث هذا المثل إلى أنه "إذا زعموا معرفة السبب زاد العجب"، لأنه عادة ما يثبت بالفحص الناقد أن ما صورناه لأنفسنا سببا، هو ليس السبب الحقيقي، أو ليس سببا أصلاً.
هذه ليست قضية أكاديمية منهجية بل هي موقف حياتي ثقافي هام. إن اختزال تفسير الظواهر إلى أسباب خارجة عن إرادتنا وعن مسئوليتنا قد ساد حياتنا بشكل ضاع معه التفكير النقدي، كما ضاعت معه فرص التصحيح والبعث الجديد.
بعد ظهور الحاسوب العملاق، والعلوم الأكثر تحديا مثل علم الشواش (الفوضى) والتركيبية، والعلم المعرفي، أمكن رصد كيف تتداخل عشرات الآلاف من العوامل طولا (تاريخا) وعرضاً (تفاعلاً) لإحداث ظاهرة ما.
اختصار تفسير الأحداث بأسبابها الظاهرة قد يؤدي إلى استرخاء عقلي بقدر ما قد يؤدي إلى تبرير تآمري. حتى في الفن حين حّدثوا مأساة "ريا وسكينة" في مسرحية فكاهية رائعة، لم يتركوها إلا وقد حشروا فيها موقفا خطابيا يفسر الميل الإجرامي للقاتلتين بأنه ليس إلا انتقام خفي من زوجة أب صعيدية قتلت أمهما أو أهانتها لا أذكر. ربما كان ذلك استدعاء لتعاطف المشاهد مع البطلتين (شادية وسهير البابلي)، لكن دلالة ما وصلني من ذلك هي أن هذا الموقف التبريري الحتمي أصبح غائرا في ثقافتنا وطريقة تفكيرنا في الحب والحرب والجريمة والدراما والبحث والسياسة.
يمتد هذا الاختزال إلى التفسير الأحدث للمرض النفسي بإرجاعه إلى زيادة في هذه المادة أو نقص في تلك. هذا التفسير للظاهرة الإنسانية المرضية بسبب كيميائي ميكانيكي محدود هو اختزال أقبح وأجهل من سببية فوريد وحتميته.
علينا أن ندرب أنفسنا على أن نفهم معنى الظاهرة وليس فقط أسبابها المحتملة. حرب العراق -مثلا- تعلن مدى ما وصلنا إليه من ضعف وقهر في نفس الوقت التي هي نتيجة جشع الشركات إياها وطمع الحكومات وغباء السادة المتغطرسين.
إن قراءة الظاهرة وفهم رسالتها وتوجيهها هو نوع من التفسير الغائي الذي يسمى "السببية الغائية" وهو أهم من البحث عن أسباب ليس في مقدورنا إزالتها عادةِ. إن فهم معنى الظاهرة يؤدي بنا إلى تحديد ما ينبغي عمله الآن ومستقبلا، هذا إذا أحسنّا الإنصات إلى "الرسالة" التي ترسلها إلينا أية ظاهرة من أول الجنون حتى الحرب حتى المجاعة والحب والسياسة.
من خلال هذا الفهم "هنا والآن" يمكن أن نتدرب على تحمل مسئولية الإسهام فيما آل حالنا إليه، ومن ثم تعديل موقفنا بما "يمكن" إلى ما "نستطيع"، مع ما يصاحب ذلك من آلام ضرورية أشرف من الغيبوبة والتبرير ووضع اللوم على ما "كان"، وما "فعلوا بنا".
الأهرام 12/7/ 2004
اقرأ أيضا:
.. شم النسيم.. / سدرة المنتهى والتنمية العربية / البقاء لله وهارمونية التسبيح