كنت أكتب مقالا بعنوان "التنافس لإبداع حلول أقدر على استيعاب طاقة العدوان" كان ذلك بناء على طلب كريم من ابن عزيز مسئول عن مجلة ثقافية متميزة، أن أطور تفصيلا ما جاء في مقالي الأخير في الأهرام بعنوان "قراءات أخرى للنجاح والفشل" حيث أنه قد وصل للبعض، وكأنني قد أكون ضد التنافس الرياضي برغم روعته، حتى إذا كنا نحن الفائزين في هذه اللعبة أو تلك. في نفس الوقت كنت أهم بالذهاب لتسجيل حلقة في برنامج "سر اللعبة" لقناة النيل الثقافية يوم الأربعاء الماضي وكان الموضوع هو "لعبة التنافس"، ربما اخترته لنفس السبب (توضيح مقال الأهرام)، وإذا بزميل فاضل يتصل بي ليبلغني نبأ رحيل الأخ الكريم المرحوم أ. د.عادل صادق؟! شعرت بثقل يكاد يغوص بي في مقعدي حتى تساءلت كيف يمكن أن أذهب للتسجيل، بعد دقائق، بسيقان من رصاص وقلب مفعم بكل تلك المشاعر التي لم تقتصر على فجيعة المفاجأة، وصدمة الفقد؟
نظرت في الأوراق أمامي قبل أن أطويها فإذا بها تساؤلات أخرى عن حقيقة الصراعات التي يعيش فيها العالم الآن وعلاقتها بقانون "البقاء": صراع الحضارات، صراع السوق، الصراع العرقي، محاور الخير والشر (لكلٍّ حقيقته!) ..الخ. تساءلت من جديد: ماذا نعلّم أطفالنا ليكونوا أحسن؟ أحسن مِنْ مَن؟ أحسن من ماذا؟ لماذا؟ لمن البقاء فعلا؟
دق جرس الهاتف من جديد فإذا بإحدى بناتي (طالباتي) تعزيني في فقد الزميل الكريم وهي تجهش بالبكاء حتى لم تكمل المكالمة، كان من بين ما قالت ذلك التعبير الشائع الذي لم أفهم معناه أبدا "البقية في حياتك"، رددت بشكل آلي "حياتك الباقية". وضعت السماعة وأنا أتساءل عن معنى ما اعتدنا أن نردده بصدق في مثل هذه المناسبات: أي بقية تلك التي نتحدث عنها؟ ما هذا؟ وكيف أن حياتها -حياة ابنتي تلك- هي الباقية؟ قفزت إلى وعيي مواساة أخرى أقرب إلى نفسي حين نذكر أهل الفقيد -وأنفسنا- "أن الله سبحانه استرد وديعته". نحن ودائع لأجل، ولكل أجل كتاب، حتى إذا جاء أجلنا لا نستأ خر ساعة ولا نستقدم.
رجعت إلى المسودة فوجدت التحدي يحتد من جديد وهو يهز قانون البقاء الحيوي الأشهر. ألا يحتاج هذا القانون الدارويني إلى أن نطالب بتعديله مثلما نطالب بتعديل قانون معاشات أساتذة الجامعات؟ لمن البقاء فعلا بين البشر عبر العالم؟ البقاء للأقوى أم للأشطر أم للأمضى سلاحا؟ أم للأخبث مخابرات؟ أم للأحذق إعلاما؟ وجدتني أرد بتلقائية دون تفكير أن "البقاء لله".
هل هي كلمات عابرة ثم ننساها كما ننسى الحزن والعظة والحكمة بعد كل فقد عزيز أو غير عزيز؟ ألم يئن الأوان أن نتعمق فهم تلك الكلمات القليلة الرائعة لعلنا ندرك من واقع إبداع حلول جديدة، تليق بتاريخ الإنسان الرائع، فهما جديدا لها يصبرنا على فقد أعزائنا ويقربنا من معنى أعمق لحياتنا، ونحن نواصل السعي لنتصاعد بهارمونية التسبيح وهو يقربنا بشرا من بعضنا البعض، إذ نتوجه إلى الحق سبحانه وتعالى بدلا من تصارعنا حتى تُبيد كل فرقة الأخرى بلا وعي أو بوعي أعمى، وبشكل لا تمارسه الحيوانات من النوع الواحد حفاظا على بقائها؟
حين نتعلم من فقد عزيز، وظلم قاهر متغطرس، وغباء إرهابي، وبلادة مستغل، كيف أن البقاء لله، تصبح التعزية بردا وسلاما على أهل الفقيد ومحبيه، وعلينا.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. واغفر لنا وله.
الأهرام: 20/9/2004
اقرأ أيضا:
سدرة المنتهى والتنمية العربية / إذا عرف السبب زاد العجب!! / التعايش التكافلي وقبول الآخر