هل يمكن حقا أن يقبل أحدنا الآخر بصدق كاف؟ وهل ثمة مستويات لذلك؟
كنت أقرأ كتاب ليندا شيفرد عن الوجه الأنثوي للعلم ترجمة د. يمنى الخولي حين فوجئت بأحداث الفتنة الأخيرة يثيرها بعض المتحمسين والجهلة والمغرضين والأغبياء. في نقدها لقانون "البقاء للأقوى" من منطلق حسبوه داروينيا، نبهت المؤلفة كيف أن ثمة قوانين أخرى للبقاء، ربما أهم، قوانين تعلن أن الطبيعة تدعو إلى، وتبارك، التعاون بين الأحياء (نباتا وحيوانا وبكتريا وخلايا..الخ) ليبقوا جنبا إلى جنب وليس على حساب بعضهم البعض. أوردت المؤلفة أمثلة كثيرة تثبت أن "التعايش التكافلي" يمتد على طيف كل الأحياء من أجناس مختلفة: شاملة البكتريا والنبات مرورا بالخلايا ذاتها.
أشارت إلى الوظيفة الإيجابية للبكتريا التي تعيش في أمعاء البقر، ثم إلى التكافل بين بعض الأعشاب (الزائدة أو المتهمة بالإضرار) وبين الذرة حيث أثبتت التجارب أن تشذيب الأعشاب التي تنبت في صفوف الذرة بدلا من اقتلاعها يفيد النبات إذ تفرز تلك العشبة مركبات مميتة للبكتيريا التي تدمر الذرة، وبدلا من أن تدخل العشبة منافسة للذرة تقوم بالسيطرة على الآفات. ثم تصل المؤلفة إلى قمة التحدي حين تتساءل: "من كان يصدق أن إبراء خلايا السرطان يمكن أن يبرئ المريض؟" وتعرض نموذجا غريبا لبحث يثبت نجاح مواجهة سرطان لوكيميا طلائع الخلايا النخاعية الحادة بأن نسمح للخلايا الخبيثة أن تنمو حتى النضج – باستعمال أحماض الريتانويات التي تجعل هذه الخلايا تواصل نموها حتى تموت موتا طبيعيا بعد مدة حياة عادية، لتحل محلها خلايا سوية فتية قادرة على النمو الطبيعي.
هل نحن البشر أدنى من كل هذا؟ لقد أثبتنا أن عدواننا على بعضنا البعض (مثل قتل مئات الآلاف، من الأبرياء الذين لا يتصارعون أصلا، وعن بعد !!) هو أبشع من عدوان الحيوانات التي لا يقتل فيها النوع آخرا من نفس نوعه إلا في ظروف نادرة خاصة، وفي مواجهة معلنة وجها لوجه. إن القانون الأرقى، الذي علينا أن نتعلمه من الأحياء الأدنى، يقول: إن الأقوى يحتاج إلى الأضعف مثل أو أكثر من احتياج الأضعف له. يترتب على ذلك أن "قبول الآخر" ليس منحة من الأقوى للأضعف، ولا من الأكثرية للأقلية، لكنه مصلحة بقائية لكليهما.
يوم الأربعاء الماضي اخترت أن تكون مهمة تحريك الوعي في برنامج "سر اللعبة" (قناة النيل الثقافية) هي كشف مستويات هذه المقولة "قبول الآخر". اللعبة تدعو المشارك أن يكمل جملا ناقصة كيفما اتفق، وبأدنى قدر من التفكير المتمعن، هاكم ثلاث لعبات – بعد نقلها إلى الفصحى- وللقارئ أن يلعبها بنفسه قبل أن يكمل المقال: (1) القبول الحقيقي للآخر هو أن أتمسك بموقفي وأسمح له أن يتمسك بموقفه، ومع ذلك..... (أكمِل من فضلك) (2) أنا لكي أقبل رأي أو عقيدة غيري، علي أن أضع نفسي مكانه تماما، وساعتها قد أخاف أن..... ( أكمِل من فضلك)... (3) يا عم! دع كل واحد يتخيل أنه يقبل الآخر، أليس ذلك أفضل من..... ( أكمِل من فضلك)..الخ.
من خلال الاستجابات المختلفة اكتشفنا من خبرة الألعاب المعاشة ثلاث مستويات لقبول الآخر: (ا) التفويت المتبادل (سيب وأنا أسيب) (ب) الصفقات المتكافئة (اقبل عيوبي، أقبل نقصك) (جـ) الجدل الخلاّق (نتلاحم بصدق، ونتعرى بوعي، ونحن نعاني فرحين آلام النمو معا، حتى يخرج منا سويا موقف جديد، أو خَـلق جديد، يجمعنا في وحدة أكبر، لننقسم أرقى، ثم نتجادل، وهكذا).
ألا يحتاج الأمر أن نعمق حقيقة موقفنا من واقع واقعنا، بدلا من الاكتفاء بترديد الشعارات، وتبادل الأحضان والقبلات، والذي في القلب في القلب؟
نشر ت في الأهرام بتاريخ 27 / 12 / 2004
اقرأ أيضا:
إذا عرف السبب زاد العجب!! / البقاء لله وهارمونية التسبيح / الدين: تسكين أم إبداع