كان المؤتمر (11-13 الجاري) عن "العلاج التسكيني"، وخاصة دور الدين في مساعدة مرضى الأمراض المستعصية وأمراض النهاية. وصلتني الدعوة للمشاركة بورقة تمثل وجهة نظر الإسلام في هذا الصدد. الداعي هو "الفاتيكان". كان عنوان جلسة مداخلتي مع ممثلي بعض الأديان الأخرى (اليهودية، والبوذية.. والهندوسية و"ما بعد الحداثة"!!) هو "حوار بين الأديان". وبرغم حسن النية وكرم الدعوة، لم يكن ثم حوار ولا ديالوج ولا مناقشة، لكن المسألة كانت تستأهل.
اقتصرت مداخلتي على إعلان خشيتي من احتمال اختزال الدين إلى دوره التسكيني كمخدر ضد الألم الفردي، قياسا على اختزاله، سالفا وحالا، مخدرا للشعوب. مثلما شاع في الإسلام اختزالا لماهية 'النفس المطمئنة، مع أن القرآن الكريم لم يخاطب النفس بهذه الصفة (المطمئنة) إلا وهي "راجعة" إلى ربها راضية مرضية، لتدخل في عباده تعالى في طريقها إلى جنته سبحانه: "فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.
المهم: نبهت في ورقتي تلك كيف أن الألم الإنساني، عضويا ونفسيا قد يمكن معاملته بالمسكنات الكيمائية أو الدينية ما دام هو الألم المحدود الناتج عن فرط وعشوائية استثارة مستقبلات الألم العصبية، أما إذا تسبب هذا الألم في خلخلة توازن النفس برمتها حتى الضجر والنزق والقنوط فهو "جهنم الفوضى البيولوجية الوجودية".
وهو ما أسميته "جهنم النشاز" الذي لا يصيب إلا الإنسان الفارغ من المعنى، المتحوصل على ذاته، المقدس لأيامه، المغرور بنفسه، نتاجا لانفصاله عن هارمونية الناس والكون. ثم بينت كيف أن الإيمان الحقيقي لا يقتصر دوره على تحسين "نوعية الحياة"، لكنه لا بد أن يمتد إلى تحسين "نوعية الموت" حتى نقبله كنقلة رائعة لا يكتمل لحن الوجود بغيرها، ليصبح الموت ليس نقيضا للحياة بقدر ما هو حركة مميزة في سيمفونية متصلة. وبديهي أنني أوضحت كيف أن ذلك الفرض قد وصلني من معايشتي لجوهر ديني دون وصاية الشراح، ومن مواكبتي للإيقاع الحيوي الإنساني والكوني قارئا (ناقدا) "للنص البشري"، خاصة في حالتي المرض، والإبداع.
جاء تعقيب رئيس الجلسة طيبا، كما نبهني رئيس المؤتمر إلى اتفاق ما قدمت مع فكر بابا الفاتيكان عن حتمية اتصال هارمونية الفرد مع هارمونية الكون في إيقاع متجدد لسيمفونية الإيمان. عوضني هذا وذاك عن افتقاري لما سمي ديالوجا بين الأديان، وتذكرت الباب شنودة وهو ينبه أن الحوار الممكن هو بين المتدينين، وليس بين الأديان.
الحوار الحقيقي جرى على مائدة الطعام وفي أروقة الفندق بيني وبين زميلي البوذي والهندوسي خاصة، لكن حوارا أطول وأثري امتد مع ابني المسيحي الطيب القادم للقائي في روما (د. رفيق حاتم)، ثم ونحن نكمل الرحلة إلى حيث عائلته الكريمة الجميلة بالقرب من باريس، لأجد نفسي ملقى، كالعادة وسط طوفان بشر مختلف، وطبيعة أخرى موقظة ببردها ومطرها وخضرتها وطزاجتها، محاطا بالحب والحرية من مجهولين كــثيرين، مغمورا من داخلي بالدهشة المتجددة أبدا، لتنتهي رحلتي بيوم في باريس أعادني إليها، أو أعادها إلي، بكل ما كان وما لم يكن.
كان يوما بصحبة ابن أصغر: مسيحيي أيضا (د. نادر عطا الله)، فتواصل الحوار أخفى وأرحب، وأنا في حال: تتقشر عني طبقات وعيي الواحدة تلو الأخرى كما نقشر الخسة حتى نصل إلى طزاجة القلب ومرونته. فأتضاءل حتى أعدل عن أوهام تعديل الكون!!، لكنني أصل إلى القاهرة فأجد أسراب الجراد تنتظرني فأتساءل: ألا يمكن أن نتعلم من هذه التجمعات الجرادية الحمراء الفتية المتماسكة "الشابة" شيئا يعيننا على حفظ نوعنا البشري "معا" برغم نتائج انتخابات أمريكا ومؤتمر شرم الشيخ؟ فأدرك أن علتي مستعصية (مازلت أتصور أن لي دورا خاصا وهاما في الحفاظ على نوعي!!) مما قد أحتاج معه إلى علاج تسكيني مثلما تناوله المؤتمر.
نشرت في الأهرام بتاريخ 29-11-2004
اقرأ أيضا:
البقاء لله وهارمونية التسبيح / التعايش التكافلي وقبول الآخر / الطفل... سلطان زمانه لمَ لا نعلمه الرحمة