يحلم أهل الذكاء الاصطناعي -حاليا- أن يكتسب الحاسوب ما يتميز به الوعي البشري وليس فقط العقل البشري من القدرة على الإبداع، وعلى الخطأ، وعلى الفلسفة، وعلى التساؤل، وعلى نبض الوجدان.. الخ. نأمل أن تكون الوزارة الجديدة أقرب إلى الوعي البشري منها إلى الحاسوب.
حين تم التغيير الأخير أمل الناس خيرا في أن ضخ الدم الشبابي الجديد إنما يعلن أن ثمة اختراق قادم، وليس مجرد إسعاف طوارئ أو تصحيح أخطاء. لكن الحديث تمادى عن الوزارة الإلكترونية، والحكومة الذكية، والكفاءة الحاسوبية.. الخ. هل هذه هي أولويات ما نحتاج إليه؟ هل هذا هو الذي سيجعل خريج الجامعة يكتب الجملة الفعلية دون فعل؟ هل هذا هو الذي سيغير قيمتين أصبحتا تميزان الثقافة المصرية المعاصرة في كل مراحل العمر تقريبا من الابتدائي إلى المعاش!؟ وهما "الكسل" و"الغش"، وهما تدرجان تحت عنوان الشطارة، إن الجهد الذي نبذله حتى "لا نعمل" يكاد يفوق الجهد الذي كان يمكن أن يبذل في العمل، إن المتابع لما آل إليه الحال لابد أن يدرك أن هناك خطأ جسيما قد تغلغل في نسيج ثقافة مجتمعنا، لن تصلحه زيادة أعداد المحمول أو الخطوط ولا توفير كابلات التواصل ولا تلفيق الأرقام لإرضاء البنك الدولي أو الكونجرس الأمريكي؟ نحن أصبحنا لا نعرف لا "ثقافة الإنتاج" ولا "ثقافة الإبداع".
لابد أن هناك شيئا في ثقافة الصين على ناحية وثقافة الهند على الناحية الأخرى وصل بإنتاجهما إلى المستوى الذي وصل إليه، لابد أن صاحب المصنع على الجانيين قد نجح أن يعرف أن ما يفعله في مصنعه إنما يصب في نوع وجوده مواطنا وشرف كونه بشرا، ليصب هذا وذاك في نجاح ومكسب لتتواصل المثابرة ويطرد الإبداع، فيصبح لبنة في صرح بلده، لابد أن العامل على الجانبين قد ربط بشكل ما، بين وقته وعمله ومهارته، وبين مبرر استمرار حياته كريما منتميا فاعلا.
"العمل- الوقت – المهارة – الإبداع – الانضباط - العدل"، لابد أن هذه هي القيم التي جعلت الصين الديمقراطية تنافس أمريكا اقتصاديا، يستحيل أن يوصف نظام ينجح أن ينتج كل هذا الإنتاج وأن يصحح نفسه كل هذا التصحيح، وأن ينافس كل هذا التنافس، بأنه شمولي بأنه شمولي كما اعتدنا أن نستعمل الكلمة، كما يستحيل أن تتفوق الهند بكل ديمقراطيتها كل هذا التفوق الإنتاجي والإبداعي ثم نتهم الديمقراطية بأن بها ثقوبا هي التي تسمح بتهريب رأس المال إلى الخارج أو شراء الأصوات، أن مجرد النظر هذين النموذجين المتناقضين ظاهرة لابد أن ينبهنا أن المسألة أعمق من تبريراتنا بكثير.
وصل الأمر من فرط حاجتنا إلى حل بريء جديد أن أعلن أحدنا (جمال الشاعر الأهرام 10 الحالي) أن الشعب المصري في انتظار وزارة "المجانين".. استقبلت ذلك باعتباره صرخة تحذر من لا جدوى الحلول الباهتة أو الترقيع أو التقليد أو الذكاء الكمي.
آن الأوان أن نكف عن ترديد الشعارات الجاهزة تبريرا لما نحن فيه، دون تمعن في نجاح النظم المختلفة المتنافسة، ما أسهل إعلان أن الديمقراطية هي الحل، أو أن الإسلام هو الحل، وما أصعب أن نشترط أن نرى الحلوى إنتاجا في الأسواق، والتزاما في العمل، واستمتاعا بالحياة، واحتراما لبعضنا البعض.
نحترم مثلا هيبة الدولة لأنها تحترم حقوق الناس، فننتج فنكافأ فنبدع، فيعيش، فنستمر، فننتصر فنرتقي و.. و.. و.. وهكذا!!
الأهرام 23/8/2004
اقرأ أيضا:
التعايش التكافلي وقبول الآخر / الدين: تسكين أم إبداع / قـراءات أخرى للنجاح والفشل