ما زلت أتعرف على النفس الإنسانية من إبداع المبدعين وتعرى مرضاي (ونفسي) أكثر مما يأتيني من معلومات مرصوصة في كتب تقليدية، كررت كثيرا كيف أنني تعلمت من ديستويفسكى ما هو طفل وما معنى قتل الوالد ثم استحالة الإلحاد بيولوجيا..إلخ، كما تعلمت من ملحمة حرافيش محفوظ -مثلا- كيف يكون الخلود الساكن موتا خامدا في مقابل نبض الإيقاع الحيوي وحتم الحركة، ثم إنني اكتشفت مؤخرا عمقا آخر: حين يغوص الإبداع في المنطقة المرعبة الجميلة بين الموت والجنس والذاكرة والقتل والمعرفة والزمن والبعث، أروع ذلك يكون عبر يقظة الحس الأعمق والأقدم مثل الشم والتذوق، هذا بعض ما أعايشه وأنا أعاود حاليا نقد رواية زوسكند "العطر" مع "مائة عام من العزلة". جارثيا ماركيز.
الذكريات روائح أكثر منها معلومات مرصوصة يمكن استعادتها. حصل العالمان الأمريكيان ريتشارد إكسيل وليندا باك على جائزة نوبل في الطب هذا العام لأبحاثهما في مجال حاسة الشم، حيث قاما باكتشاف عائلة من الجينات تحدد قدرة الإنسان على تمييز حوالي عشرة آلاف رائحة مختلفة وتذكرها مدى حياته، طمأنتني الفكرة والنتائج على قدرة العلم الحديث على الكشف عن حقيقة التناهي واللاتناهي بالنسبة لما نعيشه من حس وواقع، ثم نضطر أن نختزله ونقربه لأقرب ما يمكن أن نعبر عنه.
حاسة الشم لم تكن أبدا بهذا الغموض بالنسبة لعلماء التطور أو للمبدعين أو للمرضى، هي أصل ثابت في حفظ النوع. الفص الشمي هو أقدم المخ الحديث. حين يمارس مريضا العادة السرية فيشم رائحة مقززة نقول إن عنده هلاوس شمية Olfactory Hallucinations لأننا ببساطة لا نعرف رائحة اسمها "رائحة الشعور بالذنب"، وحين يصف سارتر العلاقات البشرية بالغثيان، فإنه يشير إلى إحساس غامض هو مزيج من إثارات رخوة لزجة ناعمة متسحبة منفرة معا.
حضرني كل ذلك حين هفت على خياشيمي رائحة حادث الأقصر وأنا أتابع حادث طابا. لم تتطابق الرائحتان فعلمت أن الفاعل مختلف، وهما معا ليستا مثل الرائحة اللاطمة الغاشمة التي تصاعدت مع دخان برجي التجارة العالمي مصنوعة من قسوة صلب المبنيين دون البشر بداخلهما. رائحة طابا جاءتني أقرب إلى رائحة جثث الأبرياء في بغداد والموصل وبعقوبة ورفح وجباليا، لكنها لم تكن متطابقة تماما مع رائحة أشلاء أطفال مدرسة بيسلان بأوستيا الشمالية المختفية خلف رائحة البارود البارد والدم الجاري والمتخثر، تعجنه قذارة وقسوة بلادة وعي الخاطفين والمخلصين جميعا.
ثمة روائح أخرى ليست لها رائحة هي المسئولة عن هذا الناتج البشع الذي نعيشه مؤخرا، تلك الروائح السامة السرية النفاذة، التي تتصاعد من خزائن شركات البترول والدواء والسلاح ومؤامرات المافيا السياسية وتزييف الإعلام، روائح تتجلى آثارها في الحروب الاستباقية، والمفاوضات الصورية، والوعود الكاذبة، وقهر الفيتو. تلك الروائح لا يشمها أصحابها، نحن الذين نعرفها، كما نعرف أن كل الروائح النشاز التي تخرج من بعض المارقين يأسا ما هي إلا نتاج هذه الروائح السامة الأخبث والأخطر.
لكن جسد "إيمان الهمص" (13 سنة) الملقى يحتضر تتصاعد منه رائحة خاصة هي مزيج من الطهر والألم والعرق والأمل والكرامة المنغرسة في طين الأرض المقدسة، لم تمنع هذه الرائحة الزكية ذلك الضابط الإسرائيلي المغلق الحس من أن يفرغ سلاحه الرشاش في الجسد الطاهر ينتفض استشهادا.
أتساءل: لماذا وكيف تنازلت هذه المخلوقات -هنا وهناك- عن إنسانيتها وأحاسيسها حتى لم يعودون يستعملون حاسة الشم مثل سائر البشر، مع أنهم مازالوا قادرين على إعلان التقزز من رائحة جثث ضحاياهم؟
نشرت في الأهرام بتاريخ 18-10-2004
اقرأ أيضا:
قـراءات أخرى للنجاح والفشل / تعويذة: ضد اليأس! / كيف يزيده النقص جمالا؟