منذ أحد عشر سنة، وأنا أكتب في هذه المناسبة بانتظام حامدا الله أن أتاح لي الفرصة لأكون بهذا القرب من هذا الإنسان النادر: نجيب محفوظ. في العام الماضي في نفس المناسبة: نشرت لي هذه الزاوية الكريمة قصيدة في فضله على شخصي ورؤيتي ووجودي، ويشهد الله أنها لم تعطه حقه. لامَن بعض من يحبونه ويعرفونني على ما اعتبروه مبالغة لم يعتادوها مني، حتى اتهمني البعض بتقديسه، رفضت وتنبهت وراجعت نفسي أتساءل: أليس في هذا الجميل الرائع نقصا يستأهل الإشارة إليه أمانة وقربا؟. وهل من اللائق أن نشير إلى هذا النقص -إن وجد- في مناسبة الاحتفال بعيد ميلاده الذي يمن الله به علينا كل عام حين يبقيه لنا: يسعى بيننا، و نسعى حوله؟
أعترف أنني وجدت في نفسي عزوفا حقيقيا عن الالتزام بالكتابة في هذه المناسبة هذا العام. لماذا الالتزام؟ ماذا يعني؟ هل هو مقرر؟ ثم كيف تصل التهنئة بصدق نبضها إن أصبحت واجبا راتبا؟ وأتذكر صلاح جاهين (وهو حرفوش باكر رحمه الله) وهو يشكل قصيدته التي أولها في يوم من الأيام راح أكتب قصيدة... وآخرها: "حاكـتبها وإن ما كتبتهاش أنا حر، الطير ما هوش ملزوم بالزقزقة". فأقول، ولا أنا ملزوم بالتهنئة.
بمجرد أن قررت أنني غير ملزم انبثقت مني الكتابة في اتجاه يبدو لأول وهلة معاكسا. تساءلت: ماذا يسعد نجيب محفوظ أكثر: أن ينقسم الناس فيه إلى محب لا يرى فيه أي عيب أيا كان، ومبغض أو مسطح أو متشنج يتهمه بما ليس فيه لمجرد اختلاف في الرأي أو قصور في الفهم؟ أم أن نراه ويراه الناس كما هو بما هو؟ ألا يجوز لمحب مثلي أن يرى في محفوظ عيوبا حقيقية وعميقة وكثيرة، تعفيه من التنزيه، وتبرئنا من التقديس؟ ألا يشك هذا الذي يمدحه على طول الخط، طول الوقت، أنه بذلك يحب شخصا آخر غير هذا السهل الممتنع المثابر العنيد الذي يتواجد بيننا بكل الضعف والخطأ والقوة والإصرار والظرف والحضور والخوف والجمال؟
فإذا كان الأمر كذلك فما هو نقصه الذي تكتمل به إنسانيته مما أريد أن أعترف به لأعلنه في عيد ميلاده تهنئة مختلفة؟ أخشى أن أستعمل أسلوبا بلاغيا أمقته (منذ الثانوي) وهو ما يقال له: "مدح بما يشبه الذم"، كما أني لا أريد أن أستدرج القارئ إلى مقدمات خادعة لأصل إلى عكسها مثل قول الشاعر: "ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم، بهن فلول من قراع الكتائب"!!. إذن فما هو ذلك النقص الذي يمكن أن يزداد به جمالا، فنزداد قربا؟
لابد وأنني أدركت من طول العشرة بعض ما قدرت أنه نقصا فيه. ثم لابد وأنه يعرف مثل ذلك وغير ذلك عن نفسه. لكنني على يقين أنه لا العيوب التي أتصورها هي عيوبه بالضرورة، فقد أكون مخطئا، ولا العيوب التي يرجحها هو عن نفسه هي نقائص فعلا، فظلم النفس وارد، ثم إني لا أشير بحال إلى آراء الذين رفضوه وانتقدوه -سياسيا خاصة- حين عجزوا عن أن يستوعبوا مسئوليته وأمانته مع نفسه وبلده.
لكل ذلك جاءت تهنئتي له هذا العام بأن أعلن كيف أنني أحب هذا الرجل بكل ما هو، مهما بدا بعض ما رجحت جسيما، فوجدت أن هذا يزيده قربا، ويزيدني حبا، ودعوت الله أن يكون لي موقعا في قلبه وأنا بعيوبي التي يعرفها، والتي لا يعرفها.
وكل سنة وأنت طيب أيها الإنسان القوي الجميل الناقص الرائع.
نشرت في الأهرام بتاريخ 13-12-2004
اقرأ أيضا:
تعويذة: ضد اليأس! / هذا القتل... ورائحة الغدر! / العيد