ظاهرة جديدة على مجتمعاتنا العربية المتدينة وهي تزايد معدلات الانتحار ومهما حاولت أن أتفهم ألم من أقدم على هذه الخطوة ألا أنني أفشل في التماس العذر له مهما كان الدافع أو المبرر فالأمل في وجه الله العزيز الرحيم رافع الهم سامع الشكوى يجب أن يملأ القلوب والصدور وأن نعلم أن في ابتلائه رحمة سبحانه وتعالى وأن فرجه قريب، وما كانت الصحة لتعرف لولا المرض ولا السعادة لولا الألم والحزن.
إن للشر دائما وجها آخر خفيا هو عين الخير، وكما يقول الفيلسوف الحكيم أبو حامد الغزالي كلما ازداد القوس اعوجاجا أعطى السهم توترا واندفاعا أكثر ليصيب هدفه وذلك هو الكمال الذي يخفي النقص، ولهذا قال الغزالي بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان وأن الدنيا بما فيها من نقص هي أكمل مثال لدنيا زائلة.
أحببت أن أقص عليكم إحدى قصص الدكتور مصطفى محمود في كتابه الجميل نقطة الغليان علها تكون عظة وعبرة لنا جميعا؛
كان يزدرد الطعام كأنه يزدرد كرات من العجين يلقي بها في جوفه دون تلذذ وكان الهواء ثقيلا وكل شيء راكدا ثقيلا وصفحة النهار تبدو كليل بلا نجوم ولم يكن يدري كم من الوقت مضى عليه وهو جالس نفس الجلسة ربما بضع ساعات لم يحرك أصبعا، وربما بنفس النظرة الذاهلة المحملقة في الهواء دون أن يختلج له جفن وكأنما تسمرت نفسه وبات عقله مصلوبا على فكرة واحدة لا يبرحها أن يتخلص من حياته.
مريض بلا شفاء ينتقل من طبيب إلى آخر ومن دواء إلى دواء ومن أمل إلى أمل ثم تذوي الآمال ثم يكتشف أنه لم يبق له إلا الصبر وفي البيت وحدة، ومائدة عليها عشرات العقاقير وخطابات لا يجف حبرها تجري سطورها اللاهثة بنداء واحد لا يهدأ: سوزان سوزان، عودي لا أستطيع أن أحيا بدونك ولا أن أموت بدونك حياتي ليل بدون ضوء عينيك، ودائما ترسل الخطابات وتسافر عبر البحر ولا يأتي لها رد ولا يسمع لها صدى.
الزوجة الأوروبية عادت إلى بلادها بقلب ينزف وتركت وراءها قلبا آخر ينزف، وفي ذلك الصمت الشبيه بالصراخ يعيش، ثم ينفذ الصبر وتنقطع حبال الانتظار ولا تبقى في ذهنه إلا فكرة واحدة أن يتخلص من حياته.
تأتيه الفكرة في البداية زائرة ثم تصبح طوافة ثم تلح عليه ثم تقيم في رأسه ثم تتحول إلى حصار ثم تغدو كابوسا قهريا يحتويه ويجثم عليه ويخنقه رويدا رويدا لقد مضت أربع ساعات وهو متجمد في كرسيه كتمثال وشيء في داخله ينخر في بنيانه ويأكل جوفه وبنظرة سريعة عبر الشرفة يطل على الناس الذين يبدون مثل النمل أسفل البرج وتتسمر عيناه على الهوة التي تفغر فاها تحت قدميه، ثم في لحظة يرمي بنفسه من شاهق.
ويتجمع الناس ويحكون في ذهول هناك رجل رمى بنفسه من أعلى البرج فسقط على كتفي عامل فقتله لساعته أما هو فلم يصب بخدش، وحينما أفاق الرجل من صدمته وأدرك ما فعل انكب على شفرة حديد صدئة التقطها من الطريق وقطع شرايينه وحملوه إلى المستشفى وأسعفوه وحينما فتح عينه واكتشف أنه لم يمت بعد أبتلع زجاجة الأقراص المنومة كلها في غفلة من الممرضة ولكنهم غسلوا معدته وأعطوه شيئا وأنقذوه، وفتح عينيه من جديد ليجد نفسه لم يمت بعد ثلاث محاولات قاتلة قتل فيها رجلا آخر ولكنه لم يمت وسقط مغشيا عليه.
وفي النوم وبين لحظات الخدر وفيما يشبه الرؤيا شاهد الرجل نورا وسمع صوتا يقول له:
- ماذا فعلت بنفسك؟
- أردت أن أقتل نفسي لأستريح
- من أين لك العلم بأنك سوف تستريح؟ أعلمت بما ينتظرك بعد الموت؟
- إنه على أي حال أفضل من حالي في الدنيا
- هذا ظنك ولا يقتل الناس أنفسهم بالظن
- وماذا كنت أستطيع أن أفعل وماذا بقي لي؟
- أن تصبر وتنتظر أمرنا
- صبرت
- تصبر يوما أخر إلى الغد
- سيكون غدا مشئوما مثل سالفه
- كيف علمت هذا؟ هل أنت الذي خلقت الأيام هل أنت الذي خلقت نفسك؟
- لا
- فكيف تحكم على ما لا تعلم وكيف تتصرف فيما لا تملك؟
- هذا عمري وقد ضقت به
- أتعلم ماذا نخفي لك غدا؟
- لا
- إذن فليس عمرك
- لا أريد أن أعيش خلوا بيني وبين الموت دعوني ارحموني
- لو تركناك ما رحمناك، إنا نحول بينك وبين رغبتك رحمة منا وفضلا ولو تخلينا عنك لهلكت
- يا مرحبا بالهلاك ما أريد إلا الهلاك يا أهلا بالهلاك
- لن يكون الهلاك رقدة مطمئنة تحت التراب كما تتصور
- أريد أن أخرج مما أنا فيه وكفى
- ولو إلى النار؟
- وهل هناك نار غير هذه؟
- أتصورت أنه لا وجود إلا لما يقع تحت حسك من جنة ونار؟ أظننت أنه لا جنه ولا نار إلا نعيمكم وعذابكم أظننتنا فقراء لا يتسع ملكنا إلا لهذا العالم؟؟ أتصورت أنه ليس عندنا لك سوى هذه الشقة في المعادي وليس عند رب العالمين غير هذه الكرة الأرضية المعلقة كذرة غبار في الفضاء؟
- ضقت ذراعا مما أنا فيه انسدت أمامي المسالك انطبقت السماء على الأرض اختنقت..... أريد الخروج أريد الخروج
- ألا تصبر لحظات أخرى؟ أترفض عطيتنا في الغد قبل أن تراها؟
- رأيت منها ما يكفي
- هذا رفض لنا ويأس منا واتهام لحكمتنا، وسوء ظن بتدبيرنا وانتقاص لملكنا بئس ما قررت لنفسك أذهب رفضناك كما رفضتنا وحرمناك ما حرمت نفسك خلوا بينه وبين الموت دعوه.
وفي تلك الليلة شنق الرجل نفسه بالملاءة ومات في هذه المحاولة الرابعة وفشلت كل الإسعافات لإنقاذه، وجاء الغد، فطلعت الصحف بخبر مثير عن اكتشاف علاج جديد حاسم للمرض الذي يشكو منه، وجاءت سوزان تدق بابه وفي يدها بضع زجاجات من هذا الترياق الجديد وقلبها يطفح بالحب والأمل، ولكنه كان ذهب، لم ينتظر العطية، ظلم المعطي والعطية وظلم نفسه وظلم الغد الذي لم يره واتهم الرحيم في رحمته وأنكر على المدبر تدبيره، وخرج إلى حيث لا رحمة ولا عودة.
واقرأ أيضًا:
خيط الحكاية / سارقو الأحلام / الطبيب معايشا والمناخ معالجا (1) مشاركة