تناول مأساة الجنون في الأعمال الأدبية متواتر بشكل لا يحتاج إلى إثبات، وان كان يحتاج يقينا - إلى إعادة نظر، ويختلف الفنان في موقفه من هذه المأساة باختلاف زاوية تناوله من ناحية، وباختلاف عمق رؤيته ووظيفة فنه ومسئوليته من ناحية أخرى، وذلك على مستويات الإبداع المختلفة بدءا بالتأليف، فالمسرحية والسينما والتلفزة.. الخ، وبدهي أني لا أعرض هنا لتناول الجنون من خلال تلك التفاهات المزرية المليئة بدناءة السخرية أو قسوة الشفقة، تلك السخافات التي شاعت فيما يقحمه التليفزيون في بيوتنا إقحاما فيشوه به كل ما هو كريم في الإنسان إذا يلطخ عقول صغارنا -بل وكبارنا- بدماء آلام البشر في غباء مزر، بل إني لا أتعرض كذلك للأعمال الفنية التي تتناول "أعراض الجنون" من هلاوس وخيالات وهوس واكتئاب من أول "هاملت شكسبير" حتى عمر، شحاذ نجيب محفوظ، ولكنى اعرض هنا لعملين تعرضا لمشكلة الجنون في جوهرها الوجودي، وفى تحديدها الصارخ لبديلها فيما يسمى بالحياة العادية أو السوية، وقد حاول كل منهما أن يتحدى موقف المجتمع وحكمه على الجنون من أساسه.
إذ يعرض الآن في مسرح الطليعة بالقاهرة مسرحية هنري الرابع (تأليف بير اندللو) وهى تتناول مشكلة الجنون من زاوية إنسانية صارخة تلقى بالقفاز في وجوه الناس العاديين بلا هوادة، ومنذ أكثر من عام عرض فيلم "وطار فوق عش الوقواق" عرضت فيه مشكلة الجنون من زاوية نقد الميكنة العلاجية، وتحد للقهر الاجتماعي للمجانين، وبالرغم من أن العملين يبدوان وكأنهما يقولان شيئا واحدا، أو كأنهما يسيران في اتجاه واحد إلا أن الفرق بينهما شاسع ودال في نفس الوقت.
الصرخة والمرأة:
يحاول بيراندللو في هنري الرابع أن يسخر من المجتمع الخائف المغمى عليه في بركة التقاليد والمسلمات الآثمة، ومسرحه يصرخ بأمانة في وجه المشاهد "أن فكر وانتصر"، ولم أشعر أبدا أنه قالها (كما سيأتي في الوقواق) "نجنن ولا يهمك"، إن الجنون الذي عرضته هذه الفرقة من الشباب المصري الرائع هو عصارة الألم النابض، وهو تحدى الهزيمة المجنونة والخدر التأمل على حد سواء، يصيح في كل منا أن واجه ذاتك في المرأة ولا تنزعج إن رأيت شخصا آخر لأن هذا الشخص هو أنت، ولن تكتمل الآية، أو بنص كلام جميل برسوم (هنري الرابع) لليلى سعد (ماتيلده)، هل حدث أن وجدت يوما في نفسك نفسا غير نفسك؟ أم أنك كنت دائما نفس نفسك؟ "فيلخص بيراندللو في حدس الفنان الأصيل نظرية تعدد الذوات لا تجزؤ الذات في كلمات هي الإلهام العلمي الفني ذاته، الذي لم تقل به أحدث النظريات النفسية إلا مؤخرا، وهذه الصرخة في المرأة هي التي نتجنبها جميعا، ولست أدري إن كان خلو المسرح الليلة بعد الليلة هو دال في ذاته على درجة هذا التجنب أم أن أسبابا حضارية ومرحلية أخرى تساهم في ذلك، ويا لهفي على هؤلاء الشباب يتقنون أدوارهم في صبر وروعة حتى ولو لم يخلوا إلا الحقيقة داخل أنفسهم أو يخلوها على صفحة التاريخ.
إن هذه المسرحية تؤكد وظيفة الفن في إثارة المواجهة البناءة، حيث تنفذ إلى داخلنا مباشرة تعمق الوعي بإضافة الجزء الأخر من وجودنا بحيث يخرج من كمونه في عنف التحدي ولكن جنبا إلى جنب مع وعينا الأصلي، وهذه هي المواجهة الحافزة على نمو الوعي وتحمل الغموض ثم التوليف الأعلى على مسيرة النمو وبيراندللو -كعادته وكحياته- يثير عدة تساؤلات ايجابية من خلال هذا العمل مثل من المجنون ومن العاقل؟ (تعيشون جنونكم في حالة من القلق الدائم دون وعى به أو إدراك له) وهو نفس السؤال الذي أثاره بوضوح اكبر في مسرحيته "لكل حقيقته" ثم سؤال يقول ما هو الجنون ولماذا الخف منه؟ (تصديق ما يقوله المجنون أمر مستحيل، ومع ذلك ينصتون إليهم بعيون كلها خوف ومع شخص يهز أساس كل ما أقمتموه داخل أنفسكم، اليوم بصورة وغدا من يدرى على أي صورة) وأخيرا يقول هذا هو الجنون صور لم نستطع أن نأسرها أثناء النوم فتطاردنا بالنهار ترعبنا أو تقطع الخيوط التي تفككت بالعقل ولكنها مازالت تربطه بأوهامه وفى نفس الوقت هجم لا هوادة فيه على عقلية القطيع وترديد الكلمات القديمة وفى كل لحظة نحس بدعوته لإعادة النظر والمواجهة وليس للاستسهال أو الهروب، فصيحة تصل إلينا عبر اتقان هؤلاء الشباب المصري أن "لا" "لا" حتى للشفقة أو ادعاء تأنيب الضمير.
عش الوقواق.. والرشوة السهلة:
وعلى النقيض من هذه الدعوة العميقة للمواجهة، نجد العمل الآخر الذي لقي إقبالا جماهيريا شديدا، نجده يقول في نفس المسألة قولا أخر، فإحساسي به انه قدم رشوة للعاجزين عن المواجهة والمدعين الحرية، رشوة سهلة تبرر الجنون ولا تحترمه، بل أن هذا العمل كاد يؤكد أقسى وأجهل نكته قيلت في هذا الشأن، وكأن "المجانين في نعيم" فعلا؟!! إذا قدم الجنون لا بوصفه وجهة نظر "أخري" تحتاج للمواجهة، ولكن بوصفه النقيض الحر (الحرية إياها) لمسئولية الاستمرار على أرض الواقع بألمه وغبائه وروعته معا والغريب أن بعض الأطباء النفسيين الثقاة قد وصف هذا العمل ذا البعد الواحد بأنه أفضل من حضور ثلاثة مؤتمرات علمية - .. والحقيقة أنه رغم ما قدم من معلومات حقيقية ونقد هام إلا أنه كان فنا تبريريا مشوها شارك في البدعة المسماة الحركة المناهضة للطب النفسي.
فن المواجهة..، وفن الرشوة:
وهكذا، ومن خلال تناول مأساة الجنون ذاته نجد الفرق الشاسع بين فن وفن:
فن مسئول نحن في أشد الحاجة إليه وفن مستسهل بهددنا بخطر تخديري محدق.
فن نخرج منه وقد زادت زاوية وعينا درجة واتسع طريق مسئوليتنا خطوة وفن نخرج منه وقد زادت جرعة تنويمنا كذبة وهيا نسمى الأول: فن المواجهة ونسمى الثاني فن الرشوة، فن المواجهة فن يؤلم ويهز وفن الرشوة فن يخدر ويخدع فن المواجهة يواجه الحقيقية بجانبيها معا، وفن الرشوة يفصم الوجود ويبرر الانشقاق فن المواجهة يثير قضية تحتاج إلى عمل، وفن الرشوة يحل قضية بتفكيك أجزائها، ومن ثم الشلل فن المواجهة يرينا الجانب الآخر من وجودنا "أيضا"، وفن الرشوة يخفى عنا الجانب الأول من وجودنا "أصلا" فن المواجهة يتحدانا لكي نفعلها "جميعا" وفن الرشوة يعفينا من أن نتحمل مسئولية وجودنا "معا" فن المواجهة ه وقود الحقيقة الإنسانية الأصعب، وفن الرشوة هو أفيون المتحمسين والمتعصبين والمتشنجين.
يا ترى هل نواجه وجودنا الأعمق لنمضى أعلى أم نقبل الرشوة وننام؟
اقرأ أيضا:
العولمة ونوعية الحياة / .. والناس.. والحب.. وربنا! / فضيلة الدهشة