كنت أحاضر في نادي الشمس بعد محاضرة نادي الجزيرة بعدة أسابيع، نفس الاهتمام والقلق، الأسرة تتراجع في حياة المصريين، بعد أن كانت من أسس حياتهم، وركائز الاستقرار فيها، الأرقام مفزعة:
خمسة ملايين فتاة فوق الخامسة والثلاثين دون زواج، طبقا للتقدير الرسمي، وضعف هذا الرقم لو نزلنا إلى الثلاثين، ومثل هذا العدد من الشباب، وربما أكثر، تسعة ملايين مطلقة، ومثلهم من الرجال ممن تأخروا في الزواج أو يعيشون فرادى دون شريكات حياة!
علاوة على الأرامل من الجنسين!!
ربما للمرة الأولى في حياة المصريين تعيش أغلبيتهم خارج دائرة الأسرة التي يكونون فيها طرفا مؤسسا!!
أين الخلل؟؟
ما العمل؟؟
أسئلة تشغل البعض في الجزيرة قلب القاهرة، وفي الشمس على أطرافها، وقلت لمن حضر أن الأمر خطير، وبخاصة في ظل متغيرات مست كل أسس ومقومات حياة الأسرة وتكوينها في مصر والعالم.
الشغل والسكن والاتصالات والترفيه ومنظومة القيم وأنظمة التربية والتوجيه وهياكل الإعلام، وأنماط الإنتاج والاقتصاد والاستهلاك، تطلعات الناس وتوقعاتهم وتصوراتهم عن الحياة الأفضل.
كل هذا وغيره شمله التغيير جذريا في مصر والعالم العربي والعالم كله، بينما لم نجلس لا فرديا ولا جماعيا لندرس ما الذي حدث، وتأثيراته، وكيف نتعامل معه؟؟!!
الدولة تنسحب مهرولة عن أداء واجبات كانت قد تعهدت وتصدت أو حاولت القيام بها في عهود سابقة، والمجتمع تائه يتخبط وسط ضجيج مضخات الإجهال/الإعلام الفضائي والإليكتروني، والكل يقول ولو بنصف علم، وأحيانا بغير علم أو جهل مبين، والناس تسمع وتهز الرؤوس!!
عمائم ضخمة وبذلات فخمة وألقاب وأصوات عالية ترسم للناس مسارات وطرق، قليل منها ينفع والكثير وهمي أو مضلل. والدين المظلوم تم استدعاؤه لتغطية العورات وإثارة النعرات لا ليكون موضع النقاش والمساءلة والاجتهاد تمدينا وتطويرا كما كان في منطلقه الأول، وكما هو صالح لكل زمان ومكان، شرط الفهم والتفعيل والحوار والتدبر والتفكر، وكلها فرائض تكاد تكون غائبة عن الفعل، إنما هي ألفاظ نتدوالها في الأمسيات والندوات وعلى الشاشات.
عورات انسحاب الدولة وتفكك المجتمعات العربية لا تنصلح بمحض ترديد الأوراد وأداء العبادات التي ما شرعت إلا لتزكية النفوس وضبط المعاملات وأخلاق السلوك!!
ولا خير في الروحانية والإيمان إلا أن يكون الإنسان متوازنا ومرتاحا وراضيا سعيدا، وأيضا نافعا لغيره، باذلا لذويه، صانعا لحاضره، بانيا لأمته ومستقبلها، وإلا تحول الدين لمحض دروشة تعيدنا لأيام التكايا والصوامع والرهبانية التي لا يعرفها الإسلام إلا جهادا في المعاش واستعدادا للمعاد، وهكذا كان السلف لمن يريد الاقتداء بهم!!
أسئلة الأسرة من النشأة إلى الاستقرار تحاصرني، يسألون ويسألن: كيف أختار؟؟ عن أي شيء أسأل؟؟ كيف أعرف من أمامي؟؟
وأجيب: أرهف حواسك لترى التفاصيل ولتسمع وتحلل ولتشم وتتذوق، أمامك يا ابنتي من سيصبح زوجك، أي جنتك أو نارك، فلا تتركي فرصة ولا معلومة، مهم أن تعرفي أسرته: كيف يفكرون ويعبرون؟؟ كيف ينفقون أو يدخرون؟؟ كيف يختلفون ويتحاورون؟؟
مهم أن تعرفي عن نشأته وتعليمه وطباعه وعن تصوراته للزواج والزوجة والحياة الزوجية والحياة بشكل عام، مهم أن تعرفي ماذا يقرأ، لو كان أصلا يقرأ، وكيف يتصرف؟؟ وعن النساء في حياته، هل هو خام لا يدري عن أمرهن شيئا أم معقد من إحداهن أو كان له حب أول قبلك، وشاءت الأقدار ألا تجمعه بحبيبته تلك!!
مهم أن تعرفي أهدافه في الحياة، وهذه تتضح مما يقضي فيه وقته ويصرف أيامه!
من المصائب أن كل شاب وفتاة مقدمان على الزواج لا يقضيان وقتا كافيا في التعارف الحقيقي، إما لافتقاد فرص اللقاء أصلا بسبب التقاليد، أو تضييع ما يتاح من وقت في الكلام المعسول والتجمل والأحلام، وهي أشياء جميلة، ولكنها ليست كل الحياة، وهناك أشياء أخرى جديرة بالنظر والحوار!!
يبدو لي أن هناك شيئا لم ألتفت إليه من قبل وهو ما لاحظته من تأمل صفحات التعريف التي تكتبها النساء على مواقع التعارف والزواج على الأنترنت.
المرأة اليوم وكأنها أصبحت تريد الحصول على كل عوائد الحياة الحديثة، وما صاحب متغيراتها من اتساع المساحة المتاحة لحركة المرأة، واتساع الحديث عن حقوقها، ومجالات الشغل أمامها، الأمر الذي وصل –بسبب اقتصاد الخدمات- إلى أن تكون فرصها أعلى من الرجال، في أحيان كثيرة. وهو أكثر بكثير مما كانت تطمح إليه رائدات تحرير المرأة في مطلع القرن الماضي!!
الزواج صار حلما بعيد المنال، وفتاة اليوم التي تريد حريتها وتحققها واستقلاليتها طبقا للتوجه الحديث المودرن، هي نفسها من تريد حقوقها كاملة طبقا للتوجه الإسلامي التقليدي في أوسع تصوراته وأسخى عطاءاته لامرأة!
وهي مقابل ذلك ليس لديها لا قدرات ولا مهارات رعاية زوج وأسرة ولا شيء تمنحه غير البيولوجيا، التي هي عطاء لا يد لها فيه!!
وبالمقابل.. فإن الشاب يحلم بالسيدة خديجة وموديل الفيديو كليب في عبوة واحدة، ومقابل لا شيء غير الذكورة والصوت العالي!!
ولا أحد يتوقف ليقول لهؤلاء وأولئك أن هذه التصورات والتوقعات لن تصل بنا إلى شيء غير الإحباط وكراهية الزواج الذي لا ينجح أصلا إلا حين يمتلك طرفاه المهارات الأساسية لرعاية شريك، والرغبة والقدرة والإرادة على التنازلات المتبادلة والملائمات والتفاوض المستمر والناجح!!
مصر هي الأعلى في معدلات الطلاق بين الدول العربية، وأغلبية المصريين يعيشون فرادى بلا شريك، وشيوخنا الأفاضل مازالوا يتناقشون حول: هل المساكنة شرط للزواج الشرعي؟؟
أي هل يكون مقبولا ألا يقيم الزوج مع الزوجة فيما يسمى "زواج المسيار" أم أن هذا يبطل الزواج؟؟
ونقاشات مثل هذه تغرقنا، بينما تتصاعد معدلات البطالة والعلاقات غير الشرعية والشذوذ الجنسي، ولا يبقى أمام من يؤثرون العفة غير الرهبنة الإجبارية أو الاكتئاب والقلق المرضي أو إدمان ممارسة العادة السرية!!
ولا جامعات تدرس الظواهر لدينا، ولا مراكز أبحاث!!
فقط أبواق إعلام/إجهال تطرح القضايا لحوار سطحي ثم ينفض المجلس، أو المولد كما يسميه المصريون، وحين تكون الأسرة في خطر، فماذا يبقى لدينا.. إذ تتراجع الدولة أيضا كما نرى وشرحت، ويتفكك المجتمع تحت ضغوط العولمة والحداثة المزورة التي نعيشها، وآراء طائشة غير مسئولة من مشايخ غائبين عن وعي الواقع أو دكاترة وباحثين منعزلين عن مكابدات الناس، وجموع تتخبط وتهيم على وجهها، لم تعد تعرف ما ينفعها مما يضرها، وما زالت تنتظر فتاوى تحل مشكلات حياتها، أو مبادرات أحسب أنها ستتأخر كثيرا، هذا لو جاءت أصلا!!
أفلا يعقلون؟؟
واقرأ أيضاً:
للمصريين: إذا كان ثمة أمل!! / على باب الله:....... الصحراء.......