كانت هذه أول مرة أتعرف عليه عن قرب كنت أسمع عنه كثيرا يقولون عنه أنه هادم اللذات ومفرق الجماعات..... ولكن كانت تلك المرة التي أراه يختطف أحدا أحبه وأعرفه، كنت أظنه بعيدا... بعيدا بعد السماء عن الأرض، ففوجئت أنه قريب يسكن أنفاسنا، كنت في الخامسة عشر وقتها..... غدا أول أيام رمضان أمي تستعد للخروج لزيارة إحدى صديقاتها...... أتعجل خروجها.... سأدير التلفاز لأشاهد البرامج والمسلسلات بلا رقابة.
كانت أمي تمنع مشاهدة التلفاز أيام الدراسة إلا مسلسل السابعة كان الشيء الوحيد المسموح به أيام الدراسة...... وها هي ستخرج...... سأقرأ أحد كتبي العزيزة التي أخفيها حتى لا تلومني أمي على تضييع وقت المذاكرة، أو ربما سأضيع الوقت في الثرثرة مع إحدى الصديقات في التليفون..... غدا أول أيام رمضان كم أعشق أيامه،.... غدا ستأتي العائلة بالكامل للإفطار في بيتنا الكبير حيث يسكن جدي وجدتي لأمي في الطابق السفلي ويسكن خالي في الطابق الذي يعلونا مباشرة.
أحب اللحظات التي تسبق الإفطار..... ينتظر الأطفال في الحي الذي نشأت فيه بجوار الجامع الكبير حتى موعد الأذان فينطلقون كالإعصار يصيحون المدفع ضرب..... المدفع ضرب.... نصر أنا وأختي أن نعلق الزينات هذه السنة على سلم العمارة التي نقطنها.....
وفي غمار كل هذا يؤذن المؤذن لصلاة المغرب..... يخرج جدي كالعادة للصلاة في الجامع القريب... وما أن يضع قدمه على باب المنزل حتى يشعر بدوخة... كل سكان الشارع يعرفونه.... يحملونه إلى الداخل نظن أنه متعب فقد كان منذ لحظات ملء السمع والبصر هكذا بسهولة لحظات وأسلم الروح!
دخلنا جميعا لتوديعه لا لم أكن أريد أن أقبله ربما لأني لم أكن أريد أن أراه وهو مسجى أمامي بلا حراك، ربما كنت أفضل ألا أراه هكذا حتى أظل أحيا على وهم أنه ما زال يحيا، ساعتها عرفتك وعرفت قوتك وقدرتك على اختطاف الأحباب الواحد تلو الآخر........ ساعتها رأيتك والتقيتك وجها لوجه وعرفت عجزي وعرفت قدرتك.
في اليوم التالي امتلأ البيت عن آخره بالعائلة والجيران لا من أجل الإفطار ولكن لتقديم واجب العزاء...... حاولنا بعد موتك أن نظل متماسكين نحتفظ باجتماعنا في البيت الكبير في رمضان والأعياد....... ولكن ما لبثت جدتي أن توفاها الله بعدك بأربع سنوات وتباعد اللقاء.......... وانتقلنا نحن وخالي من البيت الكبير لنسكن أحد الأحياء الراقية....... ولكن أشهد بالله أن هذا البيت كان أحب وأقرب إلى قلبي......... بقيَ بيتنا الكبير خاويا سنوات حتى عاد أحد أخوالي المسافرين إلى مصر ليقيم فيه.
بالأمس ذهبت لزيارته حين وقفت في شرفة البيت الكبيرة تذكرت طفولتي وصباي، تغير شارعنا القديم ولكن ما زالت رائحة الذكريات كما هي...... أشعر بالحنين الجارف إلى كل يوم معكم.
أفتقدكم.... أحبكم.
واقرأ أيضًا:
شروق وغروب / لا للتطبيع / هذا الشعور بالخوف المبهم