الحديث عما يسمى (أو كان يسمى) "غسيل المخ" أصبح في حاجة إلى تحديث جذري، فالمخ ليس وعاءًا يمكن أن يتسخ فيُغسل مما فيه، ولا هو مخزن للذكريات والمعلومات والمعارف، يحتاج إلى أمين مخزن يحافظ على ما به من السرقة أو التلف أو الاستبدال ببدائل مزيفة، المخ البشري -جنبا إلى جنب مع الجسد والحس وما بعدهما- هو كيان حيوي نابض دائم التفكك والتشكّل بشكل منتظم، المفروض أنه هادف وإيجابي.
عَمَى حكام العالم (الحقيقيين)
إن الذي يحكم -ويتحكم- في الناس، كل الناس!!، في عصرنا هذا، في وقتنا هذا، ليست هي الحكومات الرسمية المعلنة، وبالتالي فهي ليست الشعوب حتى لو أوهموها أنها انتخبت حكوماتها، لم يعد غسيل المخ قاصرا على تغيير معتقد فرد متهم أو جماعة متحمسة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكس، بل أصبح لعبة الحكام الحقيقيين للعالم، وسبيلهم الأضمن للتأثير على توجهات وأيديولوجيا بل وعواطف، وربما أديان مليارات البشر لصالح أغراضهم المعلنة والخفية (الاستهلاك- الثروة – السلطة، وبالعكس).
المخ البشري كيان حيوي مرن، الحلم هو "التفكيك الطبيعي لإعادة التشكيل"، وهو صمام الأمن ضد التفكيك العشوائي (الجنون)، أما الإبداع فهو التفكيك فالتشكيل في وعي فائق.
غسيل المخ يستغل هذه القابلية للمخ -أي الحاجة الحتمية إلى التفكيك- يُحْدِثها قصداً ثم ينحرف بها إلى أغراضه، وبدلا من أن يساعد التفكيك على إعادة التشكيل أو يمهد له -كما يحدث في الحلم والإبداع- فإن التفكيك المُقْحَمْ يُسَخَّرُ لخدمة أغراضه الخبيثة.
غسيل المخ يفتعل التفكيك، ثم يتقدم إلى إعادة التشكيل المنحرف -اقتحاما من الفاعل وليس إبداعا من المفعول به- لصالح أغراض الفاعل المغرض تماما.
حتى العلماء في مراكز البحث الملحقة بهذه المؤسسات العملاقة، أو الممولة من جانبها، أصبحوا يسمون "بروليتاريا العصر الأحدث" سواء تم ذلك من جانبهم شعوريا، أو لاشعوريا.
الغسيل الجماعي بالإعلام.
يقوم فيضان الإعلام الأحدث بشكل مباشر أو غير مباشر بغسيل مخ جماعي طول الوقت وهو يتبع في ذلك أساليب متنوعة من أهمها الإغراق حين يغمرنا بفيضان من الضوضاء السياسية والاقتصادية، بحيث تصير أمخاخنا ليس فقط إلى حالة تفكيك خامل، بل إلى شلل كامل، ومن ثَمّ َنصبح جاهزين لزرع الأفكار المغرضة الخبيثة لصالحهم.
أما التشتيت فهو العملية التي يتم بها إفشال أي متابعة للإدراك المنظم، حتى يمنع المستمع أو المشاهد أو أي أحد من أن تتكون لديه "جملة مفيدة" ومن ثم تتم إزاحة أية قضية جوهرية من بؤرة الوعي، بما يلهي عنها، ثم يتم التهميش، فالإحلال بأن تحل، بعد التفكيك والإشلال، علميات إحلالٍِ مبرمجة: فيحل الجزء محل الكل، وتحل المواثيق المكتوبة محل الواقع الحي، كما تحل الكلمات محل الممارسة الفعلية، وقد يحل اتهام شائع معلن محل البحث الجاد عن فاعل أصلي حقيقي.
الوعي البشري الجماعي الجديد
على الرغم من كل ذلك، فإنه يبدو على ساحة العالم أجمع أن ثمة إرهاصات لبزوغ فجر جديد،
دعونا نسمي هذا القادم الواعد باسم: "الوعي البشري الجماعي الجديد"، في مقابل "النظام العالمي السلطوي الجديد".
هذا الوعي البشري الجماعي – مهما بدا ضعيفا في البداية، يمكن أن يكون الوجه الإيجابي لاستعمال التفكيك الذي تقوم به مغاسل المخ السلطوية، كما يمكن أن يحول دون نجاح هذا الانحراف السلبي إلى التدهور فالانقراض.
إن لا مركزية الإعلام المتمادية بين البشر وبعضهم البعض، متجاوزين الوصاية والرقابة، ترسل إشارات تقول:
إن بالإمكان أن يوقف مدّ التدهور، وأن تتحول الموجة لصالح تطور البشر لتحول دون الانقراض.
إن هذا التواصل الواعد الجديد قادر على أن يعيد للشخص العادي بعض معالم فطرته التي شوهتها وتشوهها عمليات غسيل المخ الجماعي المهددة للنوع البشري برمته، فنستعيد بذلك:
حلاوة المعرفة، وفرحة التساؤل، ومسئولية الحزن الموقِظْ، ودهشة الحكمة الفطرية، وفخر التاريخ الحيوي، وتواصل البشر الحقيقي، وإمكانيات الشخص العادي في المشاركة في النقد والإبداع.
فيعود الإنسان قادرا على أن يسير أموره من حسن إلى أحسن برغم بطء الخطى ووعورة الطريق. لا... ليس حلماً. لأنه لا يوجد حل آخر.
5-12-2007
اقرأ أيضا:
الدهشة طريق إلى الله / الإدارة الأمريكية للدين العالمي الجديد (1 من 2) / قلمي وأنا.. والسياسة والطب