الداخل إلى المدن مفقود، ولا أحد يخرج سليما!!!
تستهلكنا المدينة.. تبتلعنا في شوارعها المزدحمة وسماواتها الملوثة وضجيجها المفزع!
المدن العربية بعضها نظيف، ولكن بلا حياة، مثل الماكيتات الكارتونية، وبعضها حي يزخر بالحركة، ولكن يشبه صندوق قمامة مفتوح، أو سويقة مهرجلة، أو سيرك انحلت أقفال أقفاصه، وانفتحت أبواب خيامه فاختلطت الحيوانات بالمهرجين بمدربي الأسود والنمور!!
المدن الغربية باردة، ولو سطعت الشمس، وما لم تكن معك صحبة تؤنسك ستوجعك مشاعر اغتراب، والأحدث أبشع، مدن منظمة فعلا، مليئة بالمنافع وأنواع الملذات، ولكن يتوارى فيها شيء اسمه الروح، وتهرب منها السكينة، إلا بشق الأنفس!
لم تغادرني بعد أحلام وكوابيس اليقظة عن مدن كالنساء، ونساء كالمدن، ولكنني كنت غافلا مثل كثيرين عن كنز راااائع، اسمه الصحراء!
شقيقة صديقي، وصديقة شقيقتي، في الوقت ذاته، من قريتها الناعسة النائمة في حضن الصحراء، جاءت تكتب وتغزل بالكلمات حكايات عن البدو والخيام والغنم والنخيل، ثم ابتلعتها المدينة، لكنها ما زالت تعرف أن الصحراء هي الأصل، وتكتب عشقا لمضاربها وأساطيرها وناسها. عن أي موضوع ستكون رسالة الدكتوراة؟؟ سألتها أنا منذ عشرسنوات!! ربما أكثر!!
قالت: عن الصحراء في روايات الليبي.."إبراهيم الكوني"، لكن نسخ رواياته غير متوافرة، أو بأسعار باهظة حين أجدها، رددت: ستكون تلك مهمتي في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وكان على الأبواب.
وبدلا من الطواف لمجرد الفرجة، أو الفضول أو تبديد الملل، كانت مهمتي واضحة في معرض ذلك العام: البحث عن إبراهيم الكوني، بأرخص الأسعار، وطفت بالمكتبات أسأل وأفاصل وأقارن بين الطبعات، وحصلت فعلا على الأجود والأرخص من هنا وهناك، لكن صاحبة الصحراء غيرت موضوع الرسالة، برغبة المشرفين، على ما أتذكر، ولم يخطر ببالي أن أفتح رواية للكوني حينئذ، ولو من باب الفضول!!
لماذا نهمل الصحراء؟؟ وأغلب مساحات الوطن العربي صحاري؟؟
أكثر من تسعين بالمائة من مساحة مصر صحاري، بينما لا نرسم لها في أذهاننا ولوحاتنا إلا النيل والوادي، والبحر المتوسط أو الأحمر!!
الفرنجة مختلفون، يسيحون في صحارينا، ونقلدهم، ولابأس من هكذا تقليد، إذ نعيد اكتشاف أنفسنا وأرضنا وناسنا، سبقونا إلى لمس الرمال، احتضان الريح ، وتذوق طعم الصخور!!
ناموا هناك وعسكروا، تسلقوا الجبال ودخلوا الكهوف، وأنعشوا السياحة بأموال ورحلات، وحفلات صخب، أغلبها هجين بين ثقافة محلية تتآكل، وثقافات عولمة تنفتح لترقص شيئا بين البلدي والصلصا!!
صديقي الصعيدي لم ينجز مخطوطة مشروعه لتيار بديل إلا في الوادي الجديد، يعيش هناك، متمسك بالسكينة والهواء النظيف، يأتي إلى القاهرة مرتحلا، ثم يعود سريعا إلى حضن الجبل والنخيل، متى تزورنا في الوادي الجديد؟؟ لم يعد يسألني هذا السؤال، ربما يأسا، وربما لأن كل شيء بأوان.
أفاجأ بأن كثيرين من أصحابي قد سبقوني إلى الصحراء زائرين ومستمتعين، سياحة السفاري تنتعش في مصر، روادها من الفرنجة أساسا، وبعض المصريين من المغامرين أو المقلدين أو الراغبين في استعادة جذورهم والتعرف على بلدهم، الذي يلعنه اللاعنون من أبنائه، ومنه يهربون، دون أن يأخذوا فرصة ليعرفوه ويشاهدوا جماله، يتصورون الجنة هناك حيث المدن النظيفة المنظمة، وربما وصلوا سالمين إلى الشاطئ الآخر من المتوسط، ثم عادوا بحقيبة مملوءة دولارات أو يورو، لكنهم أبدا لن يلاحظوا أنهم قد صاروا بقايا أو ضحايا مدن لا ترحم، لا مكان لهم فيها إلا الهوامش والنواصي والأرصفة، والعشرة في غرفة!!
كنا نتهكم صغارا على هؤلاء السادة الجالسين أمام كاميرات التليفزيونات الحكومية يقولون للشباب أن الحل في الصحراء وتعميرها، هل كانوا يهزلون؟؟ أعتقد ذلك، وكنا نقول في أنفسنا حينذاك: لماذا لا يذهبون هم للصحراء، لنرتاح من لغوهم، ولو لبعض الوقت؟!
لكن الأهم –فيما يبدو- أن الصحراء ظلت في ذهن كل واحد منا هي هذا المكان الموحش الذي لا يزوره المرء إلا مضطرا، أو تنفيذا لعقوبة نقل إداري من رئيس متسلط، أو مصلحة تقصد التنكيل به!!
الصحراء في أذهاننا هي الخواء، بينما هي مساحة يتألق فيها الثراء والتنوع والجمال، فيها البساطة أو إمكانية البساطة، وما زال فيها للإنسان وللروح مكان.
قوافل الفرنجة سبقتنا إلى استكشاف أرضنا ومعايشة ناسنا، وجبالنا الشامخة تنتظر من يتحدى فيتسلق، أو يتوكل فيعمر، أو يتجول فيتأمل ويشعر (من الشعور، ومن كتابة الشعر). وددت لو أدعو كل أحبابي وأصحابي وقراء كلماتي أن يجربوا الصحراء متنفسا وملاذا، وأتذكر رحلات الطلوع للبر –كما كانوا يسمونه- في الرياض، سبعينات القرن الماضي.
كنت أرقب تحولات السحب وتلاوين الغيوم، والشمس تغطس في أفق يلوح مهيبا، والناس من حولي أشكال وأجناس، كلهم في صلاة، يغمرهم خشوع، وتدفئ قلوبهم رهبة قرب من رب الأرض والسماء، والشمس والظلمة والضياء، مشهد لا يوصف، مشهد لابد أن يراه كل إنسان ليعرف ماذا تسرق منا المدن التي نتقاتل على متر فيها، بينما السعة لا يرابط فيها إلا قليل.
كيف يكتمل إيمان المرء في مدن لا ترى الله في شروق ولا في غروب؟؟ مدن لا تسمع زقزقة عصفور ولا خرير ماء؟؟ في مدن تزدحم بالأشياء.. أشياء.. أشياء!!
مسكين أيها الإنسان العربي، وموصول الشكر للفرنجة!!
واقرأ أيضاً:
على باب الله: ستر العورة!!/ على باب الله : تركيا للمبتدئين