من أين أبدأ حين أحب أن أكتب الآن؟!
من الذي فهم، وماذا فهم حين كتب د. يوسف إدريس مقاله الذي صار عنوان كتاب بعد ذلك: "أهمية أن نتثقف يا ناس" هل أبحث عن المقال، وهل سأجده؟!
هل أكتب عن رحلتي الشخصية مع الثقافة من يوم أن كنت أحسبها ترفا، وشيئا زائدا، إلى أن أصبحت أكاد أصرخ مع الدكتور يوسف إدريس من أنها مسألة حياة أو موت؟! مسيرة عقدين وأكثر من حياتي!! تاريخ أحمله في رأسي.
هل أكتب عن محنة الثقافة بين جهات رسمية منهكة، وجماعات المثقفين شبه المغلقة، وكل من يتعاطى الثقافة بوصفها دواء سريا، أو سلعة ممنوعة؟! وما هي الثقافة التي أعتبرها مسألة حياة أو موت؟!
هل هي ما تقدمه الأجهزة الحكومية أو القنوات الفضائية تحت بند "برامج ثقافية"، أو مثل ما تقدمه إذاعة لا يكاد يسمعها أو يسمع عنها أحد، واسمها "البرنامج الثقافي"!!
وجبات باردة منزوعة الدسم والحياة!!
كيف أشرح ما استوعبته عبر تجوال وقراءة ومحاورة واكتشافات لمدة عشرين عاما أو يزيد؟!
كيف أشرح مقولة أن أزمتنا يمكن وصفها أنها ثقافية بالأساس؟! هل أكتب بالأسلوب المدرسي عن تعريفات الثقافة، وهي كثيرة، أم أن العم "جوجل" يمكن أن يغني الكاتب والقارئ في هكذا مساحات؟!
وعيت مبكرا وحفظت تعريفا للثقافة يقول بأنها وعي، ودور اجتماعي.
وعي بالذات والعالم تاريخا ومعاصرة، وعي بالأفكار الكبرى، والأحداث المؤثرة، والتحولات والموجات الحاكمة حاليا، والواعدة بتشكيل المستقبل، وهي في مستوى أعمق وعي بالأنا فرديا وجماعيا، قديما والآن، ووعي عند الممارسة لأنماط العيش بأفضلها وأرقاها، أو ما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يبدو أننا نحبه شفويا فقط!!
يقول صلى الله عليه وسلم: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق!! ويبدو أننا فهمنا هذا الحديث ووضعناه تحت بند الأخلاق، وهو قسم نتواطأ جميعا ـأو نكادـ أننا فيه نقول كثيرا، ولا نفعل!!
بينما الحديث يبدو بوضوح متجاوزا إلى عموم الحياة، فالحياة في ظل أخلاق قويمة ومتينة وراسخة، وفي معالم واضحة ومرنة ومتطورة، وبشخصية متزنة وملتزمة بنهج تلزم به نفسها كأخلاق مستقرة، هذه الحياة هي الثقافة التي ينبغي أن تميز أمة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي وصفه ربه سبحانه وتعالى بأنه على خلق عظيم، بل حين وصفت السيدة عائشة خلق النبي وبأنه كان القرآن فقالت رضي الله عنها: كان خلقه القرآن.... فيمكن بل ينبغي أن نفهم أمنا عائشة كانت تتكلم في الثقافة، وليس فقط في الأخلاق المتواطأ على تهميشها!!
وحين ينعقد كل صيف تجمع عالمي فوق قمة تطل على بحيرة جنيف في سويسرا لبحث الأخلاق وكيف تكون أساسا راسخا في عالم البزنس، أو في السياسة أو الأعلام أو الفنون، فإن ما يجري من مناقشات هناك، وما يتم تداوله من معاني هو في صلب ما أحاول شرحه هنا من معنى عميق للثقافة بوصفها وعيا وممارسة ودورا اجتماعي مؤسسا على عمق مفهوم الأخلاق واتساع جوهرها، وليس فقط شكلها وأزياءها وطقوسها المرئية!!
يلزمنا عمل كثير في مجال الثقافة بهذا المعنى، وأرى أن جموع الغوغاء والرعاع التي تملأ العالم العربي والإسلامي هي النتاج المتوقع لتعليم سيء، وتربية أسوأ، وقد يحصل أحدهم على أعلى الشهادات المستوردة والمحلية بينما ظل عقله عشوائيا وسلوكه غوغائيا لأنه حفظ ولم يفهم، لم يتفكر ساعة، ولم يتدبر آية، وعاش في عالم لم يحاول أن يفهم السنن التي يعمل وفقها، وربما ظل قانعا بوضعه، راضيا بكونه واحد من حمير الخرافات والأساطير والمفاهيم المغلوطة الملفوفة التي تحكم غالبا حياتنا باسم الدين، والدين الصحيح منها براء، أو باسم تقاليد وعادات وطبائع أو مذاهب أو نزعات لو أنها كانت متداولة وسط أناس يدرون الفارق بين الكبش والغزال لانقرضت وماتت، إنه نفس الفارق بين الحمار يحمل أسفارا، وبين من يتدبر ويعقل.
ستجد آلافا ممن يحملون أعلى الشهادات لكنهم في التحضر والتمدن ومكارم الأخلاق الإنسانية والحضارية كالأنعام بل هم أضل، والثقافة معنية بترقية الإنسان من مرتبة الأنعام، الثقافة الحقيقية هي الباب الذهبي لأنسنة الإنسان!!
سعدت حين انطلقت وحين تتنامى جهود "ساقية الصاوي" أنشط مركز ثقافي في مصر حاليا، وأسعد بكل جهد ينشأ في نفس المجال، ولذا كانت بهجتي غامرة حين اتصلت بي الفتاة المسئولة عن نشاط مؤسسة ثقافية أهلية جديدة في مدينة الزقازيق، حي على الثقافة، حي على بناء الإنسان.
واقرأ أيضاً:
على باب الله : تركيا للمبتدئين/ على باب الله: من أين نبدأ؟!!