بسرعة ينبغي أن يكتشف أي راغب في إصلاح أو تغيير أو معالجة ما نحن فيه أن إدراكه لوجود خلل ليس سوى مجرد خطوة في رحلة الألف ميل، بحيث يرى فورا أنه ما يزال أمامه خطوات أخرى كثيرة مثل معرفة أبعاد هذا الخلل وطريقته، وأسباب وجوده، وملابسات تفاقمه، وتشابكات بقائه، وربما تناميه، وكذلك مداخل الاشتباك معه، والاحتشاد لتفكيك أصوله، والأسس الداعمة له، مع بناء عمليات مضادة له في الاتجاه والحركة، وتكوين أساليب، وممارسات علاج وإصلاح حتى يسترد الكيان المراد إصلاحه عافيته من جديد!! وهي مسيرة طويلة ومجهدة.
أما من يريد الانطلاق مباشرة من وعي اكتشاف أن هناك خللا إلى تصور إمكانية إصلاحه بمن كانوا بالأمس القريب جزءا منه، متورطين في تفاصيله، سابحين في أفلاكه، متأثرين بأمراضه وأعراضه فإن تفكيرا كهذا ليس سوى وهم يداعب رؤوس المتحمسين له، وربما لا يتجاوز الرؤوس، أو هو قد يتجاوزها ثم ما يلبث أن يتعثر أو يندثر مع أول هبة رياح!!
وبيننا وبين من ينكر علينا هذا سنن الكون، ومسارات التاريخ، وآخرها انهيار الإتحاد السوفيتي، ذلك الكيان الديناصوري العتيد، ولا ينبغي أن ينسى من يعرف أن هذا الانهيار قد حدث في سياق، وليس بسبب الإصلاحات التي أطلقها جورباتشوف فيما عرف وقتها بالمصارحة وإعادة البناء، أو الجلاسنوسنت والبروستريكا، ويومها قال له المخضرمون: إن إصلاحك سيفشل أيها الرفيق العزيز لأنك تحاول الإصلاح بمن كانوا حتى الأمس جزءا من المشكلة التي تحاول حلها، أو كما قالوا!!
لا إصلاح بدون إصلاحيين، ولا كوادر بدون تكوين، وصحيح إنما الأعمال بالنيات، لكنها ليست بمجرد النيات والأمنيات والرغبات، ولو اشتعلت بها النفوس، أو هتفت بها الحناجر.
وإذا كان الطبيب الذي يؤتمن على جسد وصحة إنسان واحد يستغرق تكوينه ست سنوات، وسنة تدريب، ويتعلم فيها من علوم التشريح، ووظائف الأعضاء، وأنواع الأمراض، وتراكيب الأنسجة، وآليات حدوث الأعراض المرضية، ومظاهر الأمراض وعلاماتها، ثم أنواع العقاقير ومفعولها، وآثارها الجانبية، وطرق التشخيص والفحص ثم أنواع الاستدلال على وجود مرض بعينه... إلخ
لابد أن يجتاز هذا بنجاح قبل أن نتركه يتحمل مسئولية مواجهة علة تصيب فردا، فما بالنا نستسهل ونتسرع في اعتماد التصدي لمعالجة شئون أمة، وإصلاح طريقة سيرها، وتعديل برامج وخطط حركتها، وغالبا ما يفشل الإصلاح في حالتنا لأن من يقوم عليه يحتاج إلى إصلاح نفسه وتكوينها وحسن إعدادها وتحويل تدريبها من غوغائية رفضها لمَّا يتبين له عوارها إلى شيء آخر ينبغي أن يكون أفضل وأحكم وأعمق، لذا ينبغي أن نتفق أن مقولة: "كده مينفعش" هي بداية وعي لازم، ونتيجة لأية نظرة ـ ولو من أعمى ـ يرى ما عليه الوضع، لكن نفس المقولة ليست نظرية في الإصلاح!!
والتاريخ القريب شاهد صادق على أن من اكتفوا بها مع بعض التجميل المستعار ما زالوا يراوحون مكانهم، فهل من مدكر؟!
إذا سلمنا بأن الحركات القائمة مصابة بمرض قاتل، بل بعدة أمراض، وأشير هنا إلى أحدها وهو هشاشة وتهافت تكوين أفرادها وكوادرها، وبدائية وسطحية خطط ومشاريع وخرائط سيرها، وبرامج الإصلاح لديها، فكيف بالله علينا يمكن أن نتصور تغيير هذا وسواه بنفس الذين اكتشفوا توا خديعة انقيادهم، وخواء جعبتهم، وأفئدتهم هواء؟!
لنأخذ مثلا تصور هؤلاء المتحمسين عن العدو الذي نواجهه لأن استعدادك لحصد غنائم قافلة العير ليس هو نفسه إن كنت خارجا لملاقاة النفير، والعدو في حالتنا ليس هو أنظمة الحكم المستبدة الفاسدة بمقدار ما هو التخطيط الأشمل لشياطين الأنس ممن يرون في أرضنا ثروة لا نستحقها ولا نحسن إدارتها، ويرون في شعوبنا مجرد قطعان من السائمة تصلح أسواقا ومستهلكين لكل ما يتجه الآخرون، لا أكثر!!
نظرتهم الناقصة هذه والمشوهة لا تخلو من وجاهة، وهذا هو العدو الحقيقي الذي حل بأرضنا، وفشلت في دحره أنظمتنا وشعوبنا لأنه جاء بمشاريع وخطط فتن وتدمير وفوضى شاملة واضح أنها أكبر من طاقة شعوبنا وأنظمتنا وحركاتنا محدودة الأفق والرؤية، تلك التي فشلت في خلع الأنظمة المحلية التابعة للشيطان، فما بالنا بالشيطان ذاته؟!
والتحدي الذي نواجهه أكبر بكثير من مجرد دحر العدوان، أو تحرير الأرض، وإن كان من عمق وأساس إيماننا أن كيد الشيطان ضعيف، فإنه ينبغي عندئذ أن نعترف برجولة: أن كيدنا وتخطيطنا وخرائطنا وإعدادنا هو أضعف، وهذا هو قدر الفجوة، وقدر التحدي، وحجم المشكلة التي يود المتحمسون مواجهتها، فما هي أدواتهم وقدراتهم؟
تغمرني هذه الأفكار والمشاعر، وتحيط بي تلك التساؤلات من كل اتجاه فيدهشني حقا وصدقا أن يحسب البعض أو يختصر أو يضع السؤال كالتالي:
هل تكون خطواتنا ومبادرتنا هي حركة سياسية أم فكرية؟!!
سياسة تاني؟! بمن ولمن وأين؟!
أم فكر؟! وما معنى الفكر المقصود هنا؟! ومرة أخرى:
من ينتج ماذا، ولمن، وكيف؟!!
منطق السياسة ـ على الأقل في حالتنا ـ يبدؤك بسؤال: مع من؟! وضد من؟!
لا أحد في دوائر السياسة الفاعلة عندنا يطرح سؤال: مع ماذا؟! وضد ماذا؟! والنتيجة سياسة بدائية على طريقة عسكر وحرامية، أو أهلي وزمالك، لا مؤسسات، ولا قواعد ولا قوانين، ولا شيء على الإطلاق، إنها السياسة منزوعة السياسة!!
مجرد سراب يضحك به الكل على أنفسهم والآخرين!
فأية سياسة يقصد السائلون؟! أين؟! وبمن؟! ووصولا إلى ماذا؟!
وأي فكر يقصدون حين يضعونه خيارا بديلا؟!
من ينتج ماذا؟! ولمن؟! وكيف؟!
أحترم الأسئلة جدا حتى لو كانت الصياغة خطأ، وربما نبدأ بنقد سؤالنا الأولي البسيط بحثا عن أسئلة أصوب أو أهم ربما تقودنا الإجابة عليها إلى شيء مختلف عن الدوران في الدوائر المفرغة لأن الثور المسكين الذي يفعل هذا إنما يدور حول نقطة ثابتة معصوب العينين، بينما هو يعتقد أنه يسير إلى الإمام، والله أعلم.
20-1-2008
واقرأ أيضًا:
على باب الله: حي على الثقافة/ على باب الله: صوت وصورة