منذ خمس سنوات كتبت بمناسبة معرض الكتاب عن مسؤولية القراءة (الأهرام 13 يناير 2003)، بدأت بأن مهدت بالرشوة المعتادة قائلا: "... هذه المناسبة التي تلتقي فيها العقول العربية ببعضها البعض، فتتذكر ما نسيت، وتستعيد ما فات، وتتفق وتختلف. وتستكشف وتتحاور،... تستنشق رحيق عقول الفكر البشري من كل حدب وصوب، بكل حرف وصوت.... إلخ" مما سمح لي أن أنطلق أشككّ في جدوى هذا المهرجان السنوي، وأتساءل عن جدوى الكلمات على الورق، وأن القارئ الذي لا يتحمل مسئولية ما يقرأ، عليه أن يوفر وقته، حتى لا يزداد اغترابا، أو يمتهن المكتوب... إلخ.
أذكر أنني قرأت هذا المقال –كعادتي طوال 12 سنة– على شيخي نجيب محفوظ، الذي كان من فرط طيبته يجامل كل من حوله بالموافقة على العمّال على البطال، إلا أنه في هذه المرة صَمَتَ لفترة أطول وقال "لا، أنا غير موافق"، وحين استوضحته، قال أنت تعجّز الناس هكذا، من أين لك أن تعلم ماذا وصل للقارئ مما يقرأ، وكيف تفاعل معه، وماذا تبقى منه، وبأي قدر أثر فيه، القراء أنفسهم لا يعرفون (لم يقل: "ولا أنت"، ولم يُضِفْ: "ولا أنا"، لكنها وصلتني هكذا من فرط أمانته وطيبته وعدْله).
منذ أكثر من سنوات كلما انعقد المهرجان وهممت بالذهاب، انظر في مكتبتي أولا، وأقلب في الكتب التي لم أقرأها، وأقول لنفسي معاقبا، "... حين أنتهي من قراءة ما سبق أن اقتنيته سوف أذهب"، واعتاد أبنائي وبناتي من ظهري، ومن فكري –كل عام– وهم يعرفون توجهاتي، أن يقتنوا لي من كتب التطور، والإبداع، والإيقاع، والمنهج، أهم ما يتصورون أنه يهمني، فرحت بذلك ووجدت فيه ميزة إضافية، هي أنهم يرفضون، أو يخجلون، أن يقبضوا ثمنها، فتصبح هدية (عادة).
تصادف أن معرض الكتاب هذا العام تزامن مع الندوة الثقافية الشهرية لجمعيتنا "الطب النفسي التطوري"، وكان أن اقترح ابن لي هو الدكتور محمود حجازي مناقشة كتاب "مخيلة الأمكنة" تأليف د. خليل النعيمي (الجراح الماهر، والأديب والشاعر السوري المقيم في باريس) من إصدارات مكتبة الأسرة 2003 أيام أن كانت مهرجانا أكثر عطاء وتدفقا، قاومتُ اقتراح عرض هذا الكتاب جهلا وتسرعا، لكن الدعوة كانت قد أرسلت، فاضطررت هذا الصباح أن أقرأه متعجلا جدا، فإذا بي أفاجأ بشاعرية وحيوية تدخلان إلى خلاياي بلا استئذان، فتربكني، وتغيرّني، وتجعلني أتراجع ليس فقط عن اعتراضي على اقتراح الكتاب للندوة، وإنما أيضا عن زعم ضرورة حمل مسئولية الكلمة، بوعي كامل، أولا بأول.
الكتاب من أدب الرحلات، لكنه قصيدة طويلة تناغمت فيها الأمكنة مع الوعي مع الأمانة مع الأمل والحزن الجميل، وقد أحيت قراءتي له بداخلي أماكن خلقتها في رحلاتي من قبل، كما سمح لي أن أعايش أخرى إبداعا نابضا لا مجرد قراءة، وقد أخذني الكاتب من اليمن إلى مراكش إلى أثينا فروما وعمان وطنجة، والدانوب وأسطنبول، ولشبونة، وحين عرج إلى موريتانيا والقاهرة وختم بدمشق اكتملت السيمفونية.
قلت أنتهز الفرصة لأقتطف ما يناسب المناسبة!
نقرأ معا:
"... هنا يبدو واضحًا أن تلقف "مفهوم الحداثة" الغربي، وتقليده بشكل "قِرْدي" شوه مسارات ومشاريع، خرب قواعد وحيوات، وفتت تراكمات تاريخية عظمى لصالحه (لصالح المفهوم الذي لم يكن معلومًا)! وهو ما يحيرك الآن، وأنت تنظر حولك مرعوبًا تنظر في هذه الكتل الإنسانية الداشرة، مثل قطعان بلا رعاة!.." (ص 186).
"... نحن العرب البؤساء صرنا نخاف من الريح في البرية، ونحتار من شدة القمع الممارس علينا، حتى ونحن بعيدون، ولكن من كتب علينا الذلة والمسكنة حتى يوم القيامة؟ اللعنة..." (ص 199).
"... الثقافة العربية البائسة: ثقافة الرضيع من غير ثدي أمه، هي التي تحيل إلى التشدق والتملق، وهي التي تسهل الانحناء الوضيع أمام المؤسسات، حتى ولو كانت دون قيمة تاريخية، وإلا كيف نفسر اجتماع "كبار المثقفين" العرب المعاصرين في جريدة واحدة، تصدرها، أو تساهم في إصدارها، أكبر دولة رجعية في العالم؟ وكل ذلك بحجة أنها مقروءة! مقروءة فقط؟ لكنهم ينسون أنهم "مقرءون – مرميون" رأساً ! ولا أثر تاريخيا لما يتقيئونه كل يوم!.." ( 220)
"... كما هي الحال مع أكثر ما "يفرزه" المثقفون العرب اليوم وفي مقدمتهم أنا. فالكتابة الحقيقية هي صيد الأحاسيس، ونحن مازلنا نصيد ذباب الكلمات..." (ص 222)
وبعد؛
تخترقني الكلمات فلا أملك إلا أن أحمل مسئوليتها بوعي أو بدون وعي
رحمك الله شيخنا الجليل
نشرت في الدستور بتاريخ 06-02-2008
اقرأ أيضا:
قبلات وأحضان، وحوار الأديان / من كلِّ صوبٍ وحدبْ، من كل دينٍ ودربْ / خليَط من الرأي والشعر: قوة النظام في ضعفه