رحل يونان لبيب رزق
وكأني فقدت أبي مرة أخرى، مع أنه رحل وهو يكبرني بأربعة أيام لا غير.
كنت أحبه، مع أنني لا أحب التاريخ، أعني لا أثق فيه، لا أعتمد عليه، لا أستشهد به، لا أفخر به إلا إذا كنت قادرا أن أمارس محاولة إحياء ما أفخر به "الآن"، أنا لا أثق إلا في التاريخ الذي يحتويه "دنا" DNA خلايانا الآن، هذا الموقف المؤلم يشكل لي إشكالا حقيقيا مع كثير من المعلومات المحكية مهما بلغت من القداسة.
قابلته مرة واحدة، اشتركنا في ندوة في المجلس الأعلى للثقافة، أذكر أنها كانت عن ثقافة المرأة، أو قضية المرأة، أو إبداع المرأة، أو شيء من هذا القبيل الذي لا يصلني منه –عادة- إلا عكس ما يزعمون أنهم يريدونه لها، لا منها!! المهم: في تلك الندوة، تكلم هذا الراحل الكريم بعدي، وفوجئت أنه يقرأ ما أكتب هنا وهناك، لم أصدق، أنا أكتب ولا أعرف ماذا يصل إلى منْ، وإذا بهذا الرجل يبلغني ما بلغني مما أخجل أن أعيده، عرفت أنه قرأني، وعرفني، وأقرّ ما أفعل، وما أحاوله، شعرت أن أبي يباركني ويشجعني، ربما هذا ما يفسر شعوري عند فقده، يومها فرحت فرحة وكأنني وجدت مليارا من البشر تصلهم كلمتي.
ذات مرة قرأت وصفا له يقول: إنه إنسان يستحيل عليك أن تكرهه، اضطررت إلى الموافقة على هذا الوصف، مع أني احترم الكره بقدر احترامي للحب، وأعتبره شرطا من شروط الحب الحقيقي، ولكن كيف يمكن أن أكره شخصا بهذه الدماثة كلها حتى وهو يكتب التاريخ الذي غالبا لا أصدقه، ربما في عدم تصديقي هذا نوع من الكره الجميل.
آخر مرة اضطررت فيها أن أعلن أنني اختلف معه لدرجة الرفض، كان أثناء تسجيلي لحلقتين متتاليتين عن مسلسل الملك فاروق، حين أعلنت اعتراضي الشديد على تصريحه بأنه بلغه من حسن باشا يوسف وكيل الديوان الملكي، أن الملك فاروق كان عنده فصام، نبهت في الحلقة إلى أن استسهال استعمال هذا اللفظ الغامض من مؤرخ عملاق مثل د. يونان هو تجاوز يسئ إلى العلم، وإلى الناس، وإلى صاحب السيرة، وإليه، ولا يضيف شيئا!!، كنت أدلي بشهادتي تلك على الهواء، وأنا غير مصدق أنني أتحدث عن هذا العالم الجليل الجميل النبيل، لكنني كنت مستثارا من هذه الموجة الشائعة التي تهين مرضاي قبل أن تهين من يوصف باسمهم، شعرت وأنا أعترض على رأيه هكذا أنني قد تجاوزت الحدود التي تسمح بها عاطفتي نحوه، لكنني اكتشفت في نفس الوقت أن هذا نوع آخر من الحب.
قبل ذلك بأيام رحل إنسان مصري آخر، جميل نبيل أيضا، هو جمال بدوي، قابلت هذا الرجل أيضا مرة واحدة، كان ذلك في الثمانينات، في مكتبه في مقر الوفد القديم، كنت أحتج على تجاوز ما أصاب مقالا نشر لي بصحيفتهم، شعرت فجأة أنني في ميدان المحطة في طنطا، (إن كان مازال بهذا الاسم)، إذا كان قد وصلني أن د. يونان "أبي"، فقد شعرت يومها أن جمال بدوي هو "ابن عمي"، وأننا نسير جنبا إلى جنب في قحافة ضاحية طنطا الملتصقة. بعد رحيله، عرفت أنه من بسيون، كان مركزنا –طفلا- السنطة ومديريتنا طنطا، قبل أن تستولي علينا إمارة المنوفية لتضمنا إلى مركز بركة السبع بدون حق تقرير المصير، يومها اعتذر لي جمال بصدق بالغ، وقال لي كلاما قريبا مما قاله د. لبيب رزق بعد عشر سنوات، تابعته بعد ذلك في التليفزيون، وفي المصور، مؤرخا يكتب التاريخ بتحيز طيب، ذلك التحيز المعلن الذي هو أكثر حيادا ممن يدعون الحياد، في محادثة هاتفية معه بعد سنوات ، عبرت له عن إعجابي بدقته وإتقانه وصدقه، برغم موقفي من كتابة التاريخ، وإذا بالحديث يطول وهو يشرح لي معنى "التأصيل"، استطعت أن أستنتج أن هذا هو الذي يجعل من كتابته للتاريخ تشكيلا يصل إلى الناس أسرع وأقرب.
هكذا عرفت أكثر فأكثر الفرق بين تسجيل التاريخ، وبين إحياء التاريخ، وإبداع التاريخ، وتلفيق التاريخ، وحمل أمانة التاريخ، ومسئوليتنا "الآن" عن التاريخ.
ليس لي أصدقاء بالمعنى الشائع، لكنني انتزعت صداقة الراحليْن دون إذن، بعد (وقبل) مقابلة واحدة مع كل منهما.
وداعا صديقي، واطمئنا، فمصر قادرة على إنجاب من يكمل ما بدأتماه، كل بطريقته.
وداعا.
مع أنني لم أتنازل عن موقفي من التاريخ والمؤرخين.
أعمل ماذا؟
نشرت في الدستور بتاريخ 23-1-2008
اقرأ أيضا:
صيد الأحاسيس، وذباب الكلمات في معرض الكتاب / خليَط من الرأي والشعر: قوة النظام في ضعفه / الشعور بالذنب في السياسة والحرب