قلت في مواضيع كثيرة أن الذين خرجوا أو يخرجون من فكر إلى فكر أو يعترضون على فكر أو ممارسة لا ينفعهم ولا ينفع غيرهم أن تكون كل بضاعتهم هي تسجيل وحصر الاعتراضات والمآخذ!!
قد يصلح هذا في البدايات، ولكنه لا يصمد ولا يبقى في الأرض ما لم يتبلور معه تدريجيا تفكير وخطط وأفكار البناء، وهذا في تحليلي هو العيب الأخطر في إنتاج وعمل نفر ممن يحاولون الانطلاق من الإسلام مع الانفتاح على تصورات وروافد إنسانية واسعة قديمة ومعاصرة متفهمين وناقدين!!
أعتبر نفسي ضمن هذا الجهد وأرى أن هذه المراجعة باتت لازمة فورا، وإلا سقطنا في تكرار المقولات والأطروحات التي سبق وقدمناها من قبل، وحدث أنها ساهمت في تثوير وتزكية رفض مجموعات هنا وهناك لما هو سائد من ممارسات وأفكار حركية إسلامية أو أخرى، ولكن بعد أن خرج المعترضون من عباءة ما نرفض ويرفضون ربما يجدون أنفسهم في العراء إلا من تكرار الانتقادات والمراثي على مظالم وأخطاء وقع فيها السابقون!!
النقد والمراجعة خطوة حتمية نحو المستقبل، ولكن السكون بعدها والبقاء فيها يبدد الطاقات ولا يعود إلا بخيبات الأمل، ونرى حولنا نمطا من خطابات اصطياد الأخطاء، والتنديد بالعيوب، والصراخ من المخالفات، والمطالبة بالمراجعات، والتنبيه إلى السقطات، ثم..... لا شيء!!
النقد والنقض بينهما صلة، وبينهما تقارب في المبنى والمعنى، ولكن إذا هدفنا ولم نشرع في البناء، فإن هذا ربما أفسد أكثر مما يصلح!!
بوضوح لا أتكلم هنا عما يسميه البعض تفاؤلا وتشاؤما، وهي تقسيمة لعبة نحترفها كلما جاءت سيرة النقد، فورا نقسم اللعب إلى فريق المتشائمين، وفريق المتفائلين، وهذا لا يجدي، ولا أقصده هنا مطلقا، وليس كل ناقد هو بالتالي وحتميا متشائم أو داعية للتشاؤم، أو متفائل أو داعية للتفاؤل، والعكس صحيح كذلك بالنسبة لغير الناقدين!!
بالتحديد أقصد أن كل نقد لا يستهدف ولا يتضافر ولا يتصور البناء فإنه ربما يفسد بأكثر مما يصلح، والعلاقة بين أفكار النقد وخطط وتصورات البناء وثيقة بحيث لا يمكنني الفصل بينهما ولا القول أيهما يسبق الآخر.
أعتبر نفسي ناقدا بامتياز، وإلى درجة تزعج من حولي أحيانا، ولا أفلت نفسي من نقدي لها غالبا، ولكنني مع تقدمي بالعمر، أحسبه نضجا يتبلور ويتراكم عندي ربما هو ما يجعلني أستاء من فيض النقد، وضخ الكثير منه في إضافة إلى ضجيج الضوضاء التي تحيط بنا.
صارت لعبة يلعبها كل أحد، فهذا ينتقد الإخوان المسلمين بالحق أو بالباطل، وهذه تنتقد التراث الإسلامي لأنه ذكوري، وذاك ينتقد بعض الصحابة، وكثيرون ينتقدون الحكومة، وآخرون ينتقدون الشعب وتصرفاته، وبعضنا ينتقد بعضا، وراحت علينا الدنيا في كلام!!
ولأن جهادنا صارا نقدا فإن التفاني والإخلاص فيه صار تجريحا للناس بالحق والباطل أيضا، اصطياد الأخطاء، والتفتيش عن العيوب، وتتبع العورات، وليل نقضيه ونهار نقطعه في سيرة الناس، نقاوم بالنقد الخاص والعام مما يمر بالناس من ملل، أو نحاول إثبات أننا شيء، أو أننا أفضل عن طريق نقد الأشياء والأشخاص والهيئات والأفكار، محض النقد، مجرد النقد، ولا عجب ألا يبقى لدنيا بناء!!
صار النقد واللوم بديلا لتكوين الذات، وبناء الشخصية، ومراجعة الأخطاء التي نقع فيها نحن، وليس كل الآخرين!!
وصار النقد واللوم بديلا للتواصل مع من حولنا لأن أحدا لا يخلو من خطأ، وأحيانا يضطرب التوازن، وتختل بوصلة القيم، فيكون العمل، وتكون المصلحة وحدها هي أسس العلاقات الإنسانية، وهي عندئذ تصبح هشة ومصطنعة!!
تعلمت في مطلع شبابي أنه لا يمكن أن يحقق الإنسان أي تطوير إلا باستيعاب ونقد وتجاوز، وفي قلب هذا نسيت، أو لم يقل لي أحد أن البناء هو قلب التطوير.
وحين انفتحت الفضائيات وآفاق التواصل أو الاتصال أمامنا اندفعت سيول النقد وأخبار النميمة، والفضائح بالكلمة والصوت والصورة، ومازال أغلبنا يعتبر هذا فتحا وانفتاحا وشفافية، وأنا أقول ما لم نفهم أن البناء هو الهدف، وأن نقدا بلا بناء، هو مثل الغزل دون مطارحة الغرام، وأن للنقد والغزل لذة، ولكن للبناء والنكاح إنجاز، وخطر لي فورا أن دخلة العروسين تسمى بالفصحى "بناءا"!! وكأن ما سبقها لم يكن سوى مقدمات!!
كيف نتعلم النقد الذي هو مقدمة للبناء؟! وكيف نتعلم البناء؟!
ركام الكلام صار يزعجني لأنه لا يصلح أساسا لأي مستقبل مختلف، ولو بقينا نصرخ وننتقد، بينما حتى القرآن لم يحدث تغييرا إلا عندما بنى العقول والرجال والقيم والحياة!!
واقرأ أيضاً:
على باب الله مصر 2010/ على باب الله: كلام في الحب