هل يشعر الساسة، خاصة الحكام منهم، بالذنب؟
كيف؟ ثم ماذا؟
وكلما كان السياسي الحاكم جدا، له سلطات كبيرة جدا، يحكم دولة قادرة فاجرة جدا، لها أسلحة استباقية، ومخابرات مافيّة (من المافيا)، وشركات عابرة، وتبريرات سافرة، احتدّت علىّ هذه التساؤلات عن شعور حكامها بالذنب. كيف؟ ثم ماذا ؟
أكتب منذ أسابيع في الموقع الخاص بي بالاشتراك مع الشبكة العربية للعلوم النفسية في النشرة اليومية "الإنسان والتطور" عن الشعور بالذنب.
أكتب منذ أسابيع عن الشعور بالذنب، حين جلست اليوم لأكتب التعتعة لم أستطع أن أخرج من هذا الموضوع الملح، فحضرتني هذه الأسئلة الساذجة.
الشعور بالذنب غير الشعور بالندم، والتكفير عن الذنب غير مجرد الاستغفار، والتوبة عن الذنب ليست إعلانا موقوفا عن التنفيذ، هو شعور جوهري مغروس في الوجود البشري منذ بدء الخليقة، منذ امتحن الإنسان بحمل أمانة الوعي، ثم الوعي بالوعي، وهو يرجع تاريخا إلى ندم المعرفة، منذ الأكل من الشجرة المحرمة، فالخروج من الجنة، ثم قابيل وهابيل والغراب، حتى أوديب سوفكل ثم فرويد.. إلخ طيب، إيش أدخل هذا في السياسة؟ (بيني وبينكم، وفي الاقتصاد الذي تتمحور حوله السياسة؟).
تعلمت أن أمارس مهنتي من خلال احترامي لمرضاي وتعلـُّمي منهم، ولكي أتمكن من هذا وذاك كان عليّ أن أتقمصهم، طبقة بعد طبقة، وتركيبا من داخل تركيب، طبعا ملئت بالرعب في البداية، لكن طالت ممارستي أكثر من نصف قرن حتى عرفت الطريق إلى قراءة النص البشري، وساعدتني على ذلك ممارساتي في قراءة النص الأدبي ناقدا، أصبح من السهل عليّ أن أتقمص مجنونا لا ينطق ببنت شفة، أقرأ عينيه وجسده وحركته وجموده، أنجح كثيرا أن أترجم لغته، وأنجح أحيانا أن أتواصل معه حتى أفهم ثورته، وفشله، وانسحابه، وإبداعه المجهض، وآلامه (بالرغم من غلبة ظاهر تبلده)، امتدت قدرتي على التقمص هذه من مرضاي إلى الأطفال، فسهُلَتْ عليّ صداقتهم، دون ذويهم الذين كنت أعجز غالبا عن تقمصهم اكتشفت أيضا أنه من السهل علي أن أتقص فلاحا أميا مثابرا لئيما ظريفا عنيدا يقظا أكثر من قدرتي على تقمص رئيس المجلس المحلي أو رئيس مجلس إدارة شركة دواء، فما بالك برئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
ما الحكاية؟
احتدت المسألة حين حاولت أن أتقمص أولئك الذين عندهم من الأموال ما لو تفرغوا لعدّه حتى لو كان من فئة المائة دولار لقضوا نحبهم عدة مرات قبل أن ينتهوا، ومرت أمامي صور مرعبة لمجاعة عامة قائمة أو قادمة، وكلما سألت أحدا ممن حولي عن هدف ولذة هؤلاء بما يجمعون، على حساب أولئك الجائعين، وليس عندهم ثلاث معدات، ولا وقت "لعمل الحب" أكثر من 24 ساعة في اليوم، فيمط المسئول شفتيه مستغربا ويقول لي: المفروض أن نسألك أنت، فأقسم له أنني عاجز أن أضع نفسي مكانهم (مع أنني غني، وطبيب نفسي)، فيجيب: إن المال هو الطريق إلى السلطة، فأنزعج أكثر، صائحا إن السلطة سوف تجلب له مزيدا من المال وتستمر الدائرة الجهنمية، وأواصل: وهل السلطة ستجعل له معدة زيادة، أو تمط له اليوم إلى أربعين ساعة ليمارس الحب أكثر؟؟!!
التاريخ يلعب هنا لعبة ملتبسة، فهو قد يركز على التأثيم (الإشعار بالذنب، مثل مزاعم الهولوكست) أكثر من تركيزه على ارتكاب الذنب، وأحيانا يتعطف التاريخ فينبه حكاما لاحقين إلى ذنوب دولهم في حرب أو تطهير عرقي أو إبادة جماعية سابقة، تجاه شعوب بأكملها أو أبرياء بلا حصر، فتنتبه اليابان –مثلا- إلى ما فعلت في الصين وتعتذر، ولا ينتبه الأمريكيون إلى ما فعلوا في الهنود الحمر، ويتمادون في قتل ذويهم في كارل هاربر إلى "البِدُونْ" (من ليس أمريكيا فهو شرير "بدون" جنسية) من هيروشيما إلى فيتنام إلى أفغانستان إلى ما لا ندري بعد إيران.
حين أواصل المحاولة، تطل عليّ ابتساماتهم البليدة، وتصريحاتهم المفرغة، وتعاطفهم الكاذب.
نجحتُ ذات مرة أن أتقمص أحدهم فإذا بي أشعر بالذنب كما ينبغي، فوجدت نفسي معلقا في حبل مربوط في أعلى حديد نافذة مسجد مهجور، أفزع من كثرة ما كررت لمرضاي أن انتحاره سوف يتكرر في نار جهنم إلى الأبد، ليريه ربنا أنه لم ينجح أن ينهي حياةً ليس هو صاحبها.
أتلفت والحبل حول رقبتي، وجثتي تهتز تحتي، وإذا بي أرى مَنْ تقمصتـُهم ينظرون إلىّ في شماتة بنفس الابتسامات، هي هي، بلا أدنى شعور بالذنب.
أنا المسئول لأنني تقمصتهم، أخطأت إذْ نسيت أن أتقمص مشاعرهم فانتحرتُ نيابة عنهم.
يملؤني يقين أن الله أعدل من أن يتركني هكذا..... ويتركهم هكذا!!
نشرت في الدستور بتاريخ 20-2-2008
اقرأ أيضا:
خليَط من الرأي والشعر: قوة النظام في ضعفه / أحب المؤرخين، ولا أثق في التاريخ / سياسة دي يا يحيى؟!؟!