هذه القصة الجميلة المغزى من قصص خلفاء المسلمين العظماء، الذين ملكوا أكثر من نصف أراضي العالم في زمانهم، وكان أقوى ملوك أوروبا في بيزنطة وفرنسا يتوددون إليهم ويحرصون على رضاهم ومودتهم، والخليفة المهدي هو ابن الخليفة أبي جعفر المنصور، وأبو أغنى الخلفاء (ماديا) من المسلمين على الإطلاق هارون الرشيد، وجدير بهذا الرجل الجليل أن يكون متسامحا كاظما لغيظه ومحسنا، فقد أحسن أشد الإحسان إلى أرملة آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد بعد قتله (وهو ألد أعداء بني العباس، والمطلوب رقم واحد في دولتهم الجديدة)، فما أجمل خلق العفو عند المقدرة لمن يقدر عليه، وتعالوا بنا نقرأ معا تفاصيل هذه القصة الطريفة كما رواها المسعودي في كتابه مروج الذهب، مع بعض التبسيط اللغوي للعبارات الصعبة الفهم:
الخيزران وامرأة مروان بن محمد
كانت الخيزران أم الهادي وهارون الرشيد في دارها المعروفة اليوم "بأشناس"، وعندها أمهات أولاد الخلفاء وغيرهن من بنات بني هاشم، وهي على بساط أرمني وهُنَ على وسائد حريرية أرمينية، و"زينب بنت سليمان بن علي" أعلاهن مرتبة، فبينما هن كذلك إذ دخل خادم لها فقال: بالباب امرأة ذات حسن وجمال في ثياب رثّةٍ تأبى أن تخبر باسمها وشأنها غيركن، وتريد الدخول عليكن، وقد أخبر المهدي الخيزران (كانت جارية من اليمن راجحة العقل رائعة الجمال، اشتراها الخليفة المنصور وأُعجِب بها ابنه المهدي فتزوجها، ويُقال أن أصلها من برابرة المغرب اختطفها رجل من مكة وباعها) بأن تلزم زينب بنت سليمان بن علي؛
وقال لها: اقتبسي من آدابها، وخذي من أخلاقها؛ فإنها عجوز لنا قد أدركت أسلافنا، فقالت الخيزران للخادم: ائذن لها، فدخلت امرأة ذات بهاء وجمال في ثياب رَثَّةٍ، فتكلمت فأوضحت عن بيان، فقالوا لها: من أنت، قالت: "أنا مِزنَة امرأة مروان بن محمد" (آخر خلفاء بني أمية، وقد قتله العباسيون بينما كان هاربا في قوص بمصر عام 132 هجرية، وقد ذكرت بعض كتب التاريخ أن مِزنة ابنة مروان بن محمد وليست زوجته كما ذكر المسعودي، وهذا أقرب للصحة)، وقد انحدر بي الدهر إلى ما ترَيْنَ، وواللّه ما الثياب الرثة التي عليَّ إلا لما صارت إليه حالنا من البؤس، وأنكم لما غلبتمونا على هذا الأمر وصارت لكم الخلافة دوننا أصبحنا نخاف مخالطة العامة؛ فقصدناكم لنكون في حجابكم على أية حالة كانت، حتى تأتي دعوة مَنْ له الدعوة (تقصد الموت)؛
فاغرورقت عَيْنَا الخيزران بالدموع، ولكن نظرت إليها زينب بنت سليمان بن على شذرا، ثم قالت لها: "لا خَفّف الله عنك يا مِزْنَة، أتذكرين وقد دخَلْتُ عليك بحَرَّان وأنت على هذا البساط بعينه؟!، ونساء قرابتكم من بني أمية على هذه الوسائد الحريرية فكلمتك في جُثَّة "إبراهيم الإمام" (أخو أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور)، فانتهرِتِنِي وأمرتِ بإخراجي، وقلت: ما للنساء والدخول على الرجال في آرائهم؛ فواللهّ لقد كان مروان أرْعى للحق منك، لقد دخلْتُ إليه فحلف أنه ما قتله، وهو كاذب، وخيرني بين أن يدفنه أو يدفع إلي جثته فاخترت جثته وعَرَضَ عليَّ مالاً فلم أقبله"، فقالت مِزنة: "واللّه ما أظن إلا أن تصرفي هذا قد أوصلني إلى ما ترينه من حال رثة، وكأنك استحسنته فحرَّضْتِ الخيزران على فعل مثله، إنما كان يجب أن تحضيها على فعل الخير وترك المقابلة بالشر، لتحرز بذلك نعيمها، وتصون به دينها"؛
ثم قالت لزينب: "يا بنت عم، كيف رأيت صنيع اللهّ بنا في العقوق فأحببت التأسَّيَ بنا" (وتقصد بالعقوق هنا أنهم جميعا من قريش، سواء بني أمية أو بني العباس)، ثم وَلّتْ باكية وكرهت الخيزران أن تخالف زينب فيها فغمزت الخيزران لبعض جواريها، فأخذنها دون أن تشعر زينب إلى أحد أجنحة القصر، وأمرت بتغيير حالها والإحسان إليها، فلما دخل المهدي عليها -وقد انصرفت زينب، وكان من شأنه الاجتماع مع خواص حريمه في كل عشية- قَصَّتْ عليه الخيزران قصتها، وما أمرت به من تغيير حالها- فدعا بالجارية التي ردتها،
فقال لها: لما ردَدْتها إلى المقصورة ما الذي سمعتها تقول، قالت: "لحقتها في الممر الفلاني وهي تبكي في خروجها مؤتسية وهي تقرأ: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (النحل:112)، ثم قال للخيزران: "واللهّ واللّه لو لم تفعلي بها ما فعلت ما كلمتك أبداً"، وبكى بكاء كثيراً، وقال: "اللهم إني أعوذ بك من زوال النعمة، وأنكَرَ فعل زينب"، وقال: "لولا أنها اكبر نسائنا لحلفت ألا أكلمها"، (وقد عُرِف عن المهدي الكرم والتسامح، وهذان الطبعان -من حسن الخلق- على خلاف نظيريهما من طباع أبيه المنصور وعمه السفاح)،
ثم بعث إليها بعض الجواري إلى مقصورتها التي أُخليت لها، وقال للجارية: "اقرئي عليها السلام مني وقولي لها يا بنت عمر إن أخَوَاتِكِ قد اجتمعن عندي، ولولا أني لست محرما لك لجئناك"، فلما سمعت الرسالة علمت مراد المهدي، وقد حضرت زينب بنت سليمان، فجاءت مِزنة تسحب أذيالها، فأمرها بالجلوس، ورحَّب بها، وقربها من مجلسه، ورفع منزلتها فوق منزلة زينب بنت سليمان بن علي، ثم تذاكروا أخبار أسلافهم، وأيام الناس، والدول وتنقلها، فما تركت لأحد في المجلس كلاماً، فقال لها المهدي: "يا بنت عم، واللّه لولا إني لا أحب أن أجعل لقوم أنت منهم من أمرنا (يقصد بني أمية) شيئا لتزوجتك، ولكن لا شيء أصْوَنُ لك من حجابي، وكوني مع أخواتك في قصري: لك ما لهن، وعليك ما عليهن، إلى أن يأتيك أمر مَنْ له الأمر فيما حكم به على الخلق، ثم اقْطَعَها مثل ما لهن من الأقطاع وجعل لها خدما وحشماً، فأقامت في قصره إلى أن قُُبِِِض المهدي، وأيام الهادي وصدراً من أيام الرشيد، وماتت في خلافة الرشيد، لا يفرق بينها وبين نساء بني هاشمِ وخواص حرائرهم وجواريهم فلما قُُبِِضَتْ جزع الرشيد والحريم جزعاً شديداً.
من مروج الذهب للمسعودي - (ج 1 / ص 487 - 488).
واقرأ أيضاً:
الكفالة والوفاء ثم العفو / الدعاء للوالدين يوسع الرزق