في حديث مشهور سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا، قال: نعم، وسئل: أيكون المؤمن بخيلا، قال: نعم، وسئل أيكون المؤمن كذابا، قال: لا... المؤمن لا يكون كذابا.
أو كما قال:
قلت للأخوات الداعيات في جزيرة العرب ردا على سؤال: بماذا تنصحنا، فقلت: لا تكذبوا، وقولوا للناس عندكم، كما أحاول أن أقول للجميع هنا وهناك ألا يكذبوا، وقبل انصرافهن هتفت منتقبة: يا دكتور أنت تعرف أن المجتمعات العربية قائمة على الكذب، الزوج يكذب، والزوجة تكذب، والأب والأم والأبناء والمدرسون، والحكام والمحكومين، العمائم والقبعات، العباءات والبذلات، الكبير والصغير.. كله يكذب على نفسه وعلى ربه وعلى الآخرين، ولو توقفوا من الكذب سينهار كل شيء!! قلت لها: هل انهيار الوهم أفضل أم استمرار الخداع وهشاشة الزيف الذي نحاول الاستقرار فوقه والنمو والتنمية، بل ونتطلع إلى مستقبل أفضل؟!! يوجعني أن أطالع أرقاما تقول أن أغلبية المصريين في عمر الزواج ليسوا بمتزوجين!!
أكثر من أربعين مليون رجل وامرأة ما بين طلاق وتأخر زواج وأرامل انقطع بهم وبهن السبيل، وفي الوحدة هم.. هكذا تقول الأرقام!!
قلت لأحدهم يوجعني وضع البنات والنساء هكذا، فالمرأة عندنا صارت مضطرة للخروج تتعلم وتتوظف وتشارك في المصاريف، ثم مطلوب منها أن تكون السيدة خديجة صباحا، ورفيقة إمتاع مساءا، وست الحبايب لأطفال صارت تربيتهم مثل ترويض النمور والأسود في سيرك مفتوح بلا أبواب ولا نوافذ ولا أسوار لأنه عصر العولمة والانفتاح بلا حدود!!
قلت: يوجعني ألم المرأة العفيفة تعيش وحيدة نرقب تسلل التجاعيد والشعيرات البيضاء رويدا رويدا، ويكاد طمثها ينقطع ولم يطمثها أنس ولا جان!!
يوجعني أن المنفلتة تعيش بالطول والعرض، والعفيفة محرومة جائعة:
تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضآن يلقى للكلاب
ولم أقتنع بمقولة القائلين أنهن اللائي فعلن هذا بأنفسهن، وأكاد لا أصدق مقولة أخرى بأنهن لا يجوعن أبدا، ولكن يجدن دائما هذا السبيل أو ذاك!!
تأملت في "تقرير بناتي" وقلت في نفسي: كم نسبة البنات والسيدات اللائي يدخلن إلى هذه المساحات تسكينا للشهوة أ, تلبية للرغبة ومثل هذا العدد وربما أكبر من الرجال، هل فعلا مساحة الرجل ليتصرف هي أوسع وأرحب؟! وهل يكذب الرجال، وتكذب النساء فيما يخص الوحدة والحرمان بينما وراء الكواليس كل واحد عايش حياته؟!!
المعلومات المتناثرة تأتيني من المحيط إلى الخليج، وأكاد أقول بأن العالم العربي قد صار مملكة كبيرة للكذب!!
همس الأمس صار بوحا على صفحات الفيس بوك وغيره: نريد حقنا الطبيعي في الحب والجنس، ومواقع المواعدة الجنسية تنتعش وتصل الراغبين بالرغبات، والعفة تشقى لأنها محبوبة وراء قضبان الغباء، مستسلمة لسياط سلطات خانقة جمدت الدماء في العروق باسم الله أو باسم التقاليد، بينما هؤلاء وأولئك من أصحاب الكروش والعروش لدى كل واحد فيهم الخليلات والحليلات!!
فيسعد ويسعدن!!
ليس الجهل فقط يمكنه تفسير ما نحن عليه بل الجهل المركب والكذب بالتعامي عن الحقائق، وترديد الأساطير الشائعة بدلا من الحقائق الصحيحة، والمنطق السليم!!
الهاربون إلى الفيس بوك وغيره ليسوا مرض بل من المرض فروا إلى ملاذ يحسبونه آمنا، أو على الأقل يوفر لهم الحد الأدنى من التنفس بحرية، وربما بعض انفلات على النمط الغربي، لأن البديل المتاح أمامهم للأسف هو واقع مأزوم ومتخلف وخانق باسم الدين أو التقاليد أو بفعل الاستبداد وأنواع القهر الكابت للحرية!! وهذا تفسير لا تبرير.
كل نوع من أنواع الحرية، وكل مستوى من مستويات التحرر تصادره سلطة، وتمنعه قبيلة من قبائل أوطاننا السعيدة: حرية المعتقد، وحرية التعبير، وحرية الاتصال، وحرية الرفض والمناقشة، والاعتراض والاختلاف!!
عشرات الأنواع من الرقابة، ومحرمات من كل صنف ولون ونمط، وأغلبها ما أنزل الله به من سلطان، هو وحده صاحب الأمر والنهي، لكن الناس أسلموا رقابهم للجلادين باسم الدين أو باسم النظام أو باسم السلطة، كل سلطة وأية سلطة!!!
وإذا كان هذه هو واقعنا البائس فإن الانتساب إلى مملكة الكذب الالكتروني صار ألطف، طالما أن كله كذب، الكذب خفيف الدم في الفضاء الأثيري يصبح أشهى على النفوس من الكذب الغليظ الكريه باسم الله أو باسم أصنام وطواغيت ألفية جديدة ما زلنا ندفع فاتورتها دون أن نحصل إلا على فتات مميزاتها!!
الواقع مريض، ومن ومرضه يهرب المرضى!!
إنه مثل مشفى كبير فشافيه وباء معدي فصار المرضى يقفزون من النوافذ والشرفات، ويتسلقون الأسوار الشائكة، ويكسرون البوابات، أو يحضرون أنفاقا يخرجون عبرها من هذا المكان الذي دخلوه يلتمسون الإيواء والدواء والرعاية فإذا به بسبب سياسات وتصرفات جميع من فيه يتحول إلى كارثة!!!
وتذكرت حديث السفينة التي يقتسمها الناس ثم كل فئة تعتبر نصيبها عزبة خاصة بها تود لو تفعل ما تريد دون مراجعة ولا مناقشة، وكل قبيلة تخرق وتستبد وتتمادى في الخرق والتخريب قائلة: إشمعنى إحنا، وبنفسية إن السفينة لهم وحدهم، وأحيانا على طريقة "هي مش بتاعة حد" نواصل الكذب فلا نجاهر بأننا جوعى للجنس والحب والتحقق والحرية والعقلانية والحد الأدنى من مطالب البشر في احترام أدميتهم بدءا من الخبز الذي صار عزيزا وانتهاءا بحق الإنسان في أن ينشر أفكاره ومعتقداته!!
بدلا من الجهر بأننا عطش يقتلنا الظمأ إلى الاستقرار في أوطان صارت ذبيحة بأيدينا، وقربانا يتقاسمه أصحاب الكروش والعروش، وتتنازعه العصابات بقوة السلاح، وتحت شعارات نبيلة تلهب الظهور بالكي دواءا لعلل تحتاج إلى غيره!! بدلا من الصدق نتواطأ على الكذب!
المسلمون يهربون طائرين وعائمين ومتسللين ومهاجرين، والأقباط أيضا، السنة والشيعة، المتعلمون وغيرهم.. يهربون من مملكة الكذب الغليظ إلى أوطان أقل سوءا تمنحهم بعض الكرامة الضائعة، والخبز الشريف، وحرية لم يعرفون لها طعما ولا نوما ولا رائحة!!
يهربون.. نهرب إلى الفضاء الأثيري، وإلى الأماكن المفتوحة ولا يبقى غير الرهائن في الوحدة والضنك مثل يونس في بطن الحوت، وأسمى ترسل لي:
في ذقنك ليوم القيامة: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أرسلها لثمانية أشخاص وستسمع خبر حلو الليلة (اسأل مجرب).
صابرة في بطن الحوت يا أسمى أم ماذا؟!
نحتاج إلى خطة للخروج من جوف الحوت، ومملكة الكذب، أو سنبقى في بطنه إلى يوم يبعثون!!
واقرأ أيضاً:
على باب الله: كلام في الحب مشاركة/ على باب الله: الطريق الرابع ـ تأملات مسافر1