(1)
في حياتي مفارقات عديدة اكتشفت إحداها مؤخرا، وهي أن من يعرفونني عبر مطالعة كتاباتي بشكل منتظم منذ سنوات (وصلت إلى ثمانية سنوات، ولله الحمد) هؤلاء الأصدقاء المهمين جدا جدا بالنسبة لي لا توجد بيننا أية صلة اتصالية غير أنني أكتب ويقرؤون، وأحياننا يتفضلون بسؤال أو تعقيب أو مشاركة، دون أن يقول أحدهم، أو تعلن إحداهن: يا دكتور أنا أتابعك منذ شهر كذا، عام كذا، وقرأت لك كذا وكذا، وهذه وضعية مدهشة!! إذا أننا أصدقاء، ولكن عن بعد!!
ما زلت أذكر "عبد الله" من الأردن، قابلته مرة في "عمان" على هامش محاضرة مع صديق أخر هو "أشرف" مهندس فلسطيني/أردني أيضا، وكنت قد عرفت أن أشرف يقرأ لي بانتظام حينذاك، ويتأثر بما أكتب كما تأثر آخرون لا أعرفهم، بحيث كانت كلماتي التي أكتبها وأنشرها سببا في نضج البعض أو توازنهم أو غير ذلك من آثار أشتاق لمعرفتها تفصيلا، ولكن كيف؟!
وجدت "عبد الله" يحفظ بعض كلماتي، ويذكر إجاباتي بشكل لفت نظري، ثم زارني في القاهرة وقضينا نصف يوم معا فإذا به حافظة متحركة لأفكاري يكاد يستشهد بما رحل عن ذاكرتي من آرائي أو لمحات لي، وكثرة الكلام تنسي بعضه بعضا!!
بينما أقابل المزيد من الناس ضمن ندوات أو ضمن برامج تلفزيونية وتلفت آرائي انتباههم، ويطلبون التوضيح في بعضها، وقليلا ما أتذكر إعطاءهم عنوان موقعي الإلكتروني ليصبحوا أصدقاء محتملين مثل من "لا أراهم!"
(2)
مرعوب بعمق وبشدة على مصر وعلى العالم العربي كله من عدة جهات!! أرى عوامل الانهيار والدمار والخراب تعمل بنشاط بأيدي أعدائنا، وبأيدينا أكثر، وأرى عوامل الصحة تتوارى وتومض ثم تنطفئ، أرى الفتن كبيرة وثقيلة، والعقول الفاهمة الواعية قليلة ومحاصرة لأن بقية العقول حائرة ومنهكة ومحدودة الأفق!!
أرى التحديات ماثلة ومحدقة ومجتمعة وأرى التشخيص قاصر، والفحوصات قاصرة، ووصفات العلاج متسرعة وناقصة، والنفوس ضيقة، والغضب يملأ الصدور، ولا أنتظر من غاضب أو مأزوم أو مضغوط صرفا ولا عدلا ولا رشدا ولا حكمة ولا تطبيبا لجراح مزمنة!!
أقابل أفرادا معدودين على وعي بهذا فأجدهم "ما شاء الله" قد بذلوا مجهودا يستحق الإشادة والتقدير ليصبحوا على إحاطة بطبيعة ما نعاني منه من علل، وما نعيشه من نواحي خلل، ويبقى وصف العلاج فن آخر يحتاج إلى تدريب ومعاناة بعد التشخيص الصحيح، ومعرفة حقيقة الأعراض وعمق ومصدر الأوجاع والاحتقانات والالتهابات والكسور!!
أذكر أن الإمام الشهيد "حسن البنا" رحمه الله وقف خطيبا فيما سمي بالمؤتمر العام الخامس لجماعته، وقال ضمن أسباب تخلفنا وتراجعنا بالنص: "الفُرْقة قاتلها الله"، وأنا أرى عوامل التمزيق، وممارسات الأحزاب والقبائل، وتقاليد الحروب الأهلية الثقافية، وأعراض التفكك والتفتيت ترفع ضغط دمي، وتقبض على قلبي، وتستبد بمشاعري هلعا على بلدي!!
في مصر جموع كبيرة تختصر الإسلام في حجاب الجسد، وجموع أخرى تريد احتفالا بخلعه لأنه يحجب الحرية والعقل، ويقهر المرأة!!
في مصر من لا يفهمون ولا يتصورون وجودا ولا ممارسة للسياسة إلا بدافع من الدين، وهدفهم إقامة دولة يسمونها مدنية ذات مرجعية دينية/إسلامية، وفي مصر جموع ترى كل هذا باطلا لا منطق له ولا أساس ولا مستقبل، وتصرخ في مقابل شعارات "الإسلام هو الحل" بشعار "العلمانية هي الحل"، وعندي أن أغلب هؤلاء وأولئك لا يفهمون الإسلام ولا العلمانية، بينما يعتقدون أنهم جهابذة وجاهزون لحكم مصر لولا الحكم المستبد، والأمن المركزي!!
ينتقدون السلطة ولا ينتقدون أنفسهم!
في مصر قبائل (بحسب تعبيري)، أو مستوطنات (بحسب د. مأمون فندي)، أو صناديق (بحسب تعبير إحداهن)، وفي كل دائرة تقاليدها هناك قبيلة "الإخوان"، وهناك قبيلة "الأقباط"، وقبيلة "عمرو خالد"، وقبيلة "العلمانيين"، وقبيلة "العامة"، وقبائل الشرطة والقضاء والأزهر والصحفيين وقبائل أخرى يمكن رؤيتها بسهولة، ولكل قبيلة مقدسات وتقاليد وطوطم أو أكثر من طوطم/صنم من أفكار أو أشخاص أو تراث وعادات وتقاليد، وقطع الورايد (الأوردة) عند المصريين أهون من قطع العوايد (العادات)!!
أي أن قطع الأوردة والشرايين أهون من تغيير العادات المستقرة، وتحدي الأفكار السائدة، والجهابذة من كل قبيلة يعتقدون أنهم يتحدون الأفكار السائدة بمجرد ترديد أفكار جاهزة أخرى!!
وأغرق في الضحك من شدة البلية حين يعتقد أحدهم أنه تغير حين ينقلب أو يقفز أو يتحول من قبيلة إلى قبيلة، ولا أدري فارقا بين الحمار بدون بردعة والحمار ببردعة، آه طبعا هناك فارق كبير... البردعة!!!
عبرت زميلة عن اعتراضها على أخي "عمرو خالد"، أو أن أسلوبه أو منهجه لا يعجبها، فكان من نصيبها كلام وهجوم من مستوى أنها فاجرة وعاهرة وأشياء مما لا أستطيع ذكره مراعاة للحياء العام!!
وأحب أحدهم أن ينتقد الحجاب فلم يجد ـهداه اللهـ إلا صورة لامرأة مغطاة الوجه والرأس وعارية المؤخرة، وآخرون يعتبرون أنفسهم وإدراكهم للدين أو للعالم هو وحده مرجعية الصواب والخطأ، فكل ما جهلوهُ، أو بدا غامضا بالنسبة لهم يصبح كفرا أو تناقضا أو تشويشا في أحسن الأحوال، وفي أكثر الردود والانتقادات تهذيبا، فهل هذا مناخ يبشر بخير؟!
وهل اتفاقنا على رفض الأوضاع القائمة الفاسدة والمتردية التي تظهر عوراتها ومفاسدها للرضيع الذي لم يعقل بعد، هل هذا الاتفاق وحده يؤسس لمستقبلها أفضل؟!
لا وألف لا... لأن القبائل أو السادة في المستوطنات مختلفين في كل شيء بعد ذلك!!
ويتبع >>>>>: على باب الله: الطريق الرابع ـ تأملات مسافر2
واقرأ أيضاً:
على باب الله: مملكة الكذب/ على باب الله: بعض أهوال القيامة