أتذكر عندما كنت صغيرا وربما حتى إلى حين شارفت على إنهاء العقد الثاني من عمري، أتذكرُ أنه لم يكن لديَّ كثيرٌ من الخيارات لأنفق فيها مصروفي.... طبعا كنت أنفقه.. وأكثر منه أحيانا .... ونادرا ما ادخرت، ولكن لم يكن لدي كطفل مثلا خيارات من الحلوى أكثر من حبات "النادلر" أو "الطوفي" ومن البسكويت نوعٌ اسمه "إيكا" ومن الشيكولاتة حاجة اسمها "كورونا"... أو ربما أستأجرُ دراجةً أو أذهبُ في نزهة محلية.... وكنت بالتالي غالبا ما أحدد في أي شيء سأنفق وأنا آخذ المصروف..... كنت وكان كذلك معظم أفراد أو كل جيلي... فهل يا ترى يتصرفُ أحدٌ من أبنائنا كذلك فيما يتعلق بالمصروف اليومي؟
عندما يقف طفل أو مراهقٌ صغير أمام طاولة أو رف الحلوى والمقرمشات أشكالا وأصنافا اليوم ترى ما هي العمليات الفكرية التي تدور برأسه؟ وما هي علاقتها بسماته الشخصية المتشكلة؟ ومدى تأثر كونها في طور التشكل؟ وكذلك علاقتها بكم ما يرى من إعلانات التلفزيون أو الفيديو أو النت أو الشوارع أو المحمول أو... أو... إلى آخره، وهل لذلك علاقة بزيادة ظاهرة إدمان الشراء Buying Addiction عند المراهقين والمراهقات وعند الراشدات أيضًا في مجتمعاتنا؟ وهل له علاقة بزيادة ظاهرة السرقة في الأطفال والمراهقين؟ وكل هذه الظواهر المرضية من النوع النفسي الاجتماعي كلها زادت في مجتمعاتنا في الآونة الأخيرة وهذا حسب انطباعات عن حالنا كمجتمعات أستمدها من خبرتي أو خبرة أصدقائي......
لكنني كثيرا ما تحدثت مع ابن عبد الله ومع المهدي وبعضٍ من مستشاري مجانين عن تغيُّر مفهوم الشراء في الآونة الأخيرة خاصة عند الأطفال والنساء...... ابني الأصغر أحمد قالها لي في مرة عندما كان يطلب مصروفا لا أذكر إضافيا أو من أساسي مصروفه بينما كنا في معية أمي أنعم الله عليها بالصحة، سألتُه لماذا تريد النقود؟ فكان رده: "عشان أشتري"... قلت: ماذا تشتري؟؟ قال: لا أعرف.. أنزل أشوف.... أبديت استغرابي...... قلت كنا نعرف قبل طلب النقود أو أخذ المصروف في أي شيء سنصرفه ولو حتى خطوطا عريضة.... لكن ما يحدث الآن هو أنك تترك نفسك تشتهي الشيء بعد رؤيته بين أشياء ثم تشتريه؟؟ عرفت بعد ذلك أن هذه هي طريقة تفكير الأجيال الجديدة.... لقد أصبحنا كثيرا نرى من يشترون لأجل الشراء... إذن لقد تحقق الشعار القائل "متعة التسوق" أو "حيث التسوق متعة".... وهذا بالتأكيد مختلفٌ عما كان قديما على الأقل بالنسبة للأطفال....... لقد تغير أسلوب عرض البضائع بوجع عام وفي اتجاه تشجيع سلوك الشراء بأي شكل، أفلا يكونُ لهذا أثر على معرفيات ووجدانيات وسلوكيات الإنسان؟؟؟
أليس في آليات تشجيع الشراء أو الإلحاح على الشراء التي تحاصر الجميع من كل منفذ إعلامي وغير إعلامي وفيها ما يصل حد اشتر واحدًا وخذ ثلاثة من المنتج المعروض مجانا.. أليس فيها حطٌ من قدر المنتج في نفس الوقت الذي لا تستطيع فيه أن تصدق أنك خدعت الشركة! فهم دائما يكسبون منك ومن غيرك!.... لكن الأشياء وأنت تعرف تباع بأكثر من تكلفتها الحقيقية بكثير ويبدو أنهم منذ البداية يضعون في الحسبان أنهم سيقدمون العروض تماشيا مع سوق الإلحاح!
ثم هل لهذا الإلحاح في عرض البضائع وطلب النقود من الجيوب مقابل الحصول على ما تريد من بضاعة هل لهذا الإلحاح في العرض أثرٌ في زيادة أعداد سارقي المحلات التجارية؟ فسرقة قطعة شيكولاتة أو غيرها من أشكال الحلوى والمقرمشات وأحيانا الأقلام أو غيرها من الأدوات المدرسية أو أيٍّ من البضائع الصغيرة على اختلاف أصنافها هذا النوع من السرقة والذي يسمى سرقة المحلات Shop Lifting ازدادت معدلاته في العقود الأخيرة بشكل لم يسبق له مثيل خاصة بين الأطفال والمراهقين... وأنا أتحدث هنا عن مجتمعاتنا وليس فقط عن المجتمعات الغربية،........ ونستطيع القول بأن آليات العرض والتسويق والإعلانات في وسائل الإعلام على اختلافها إضافة إلى العروض الخاصة كلٌّ لفترةٍ محدودة... كل هذا يشجع في نفس الوقت لا فقط على مشكلة إدمان الشراء وإنما أيضا -ومن خلال بيان فارق السعر عن القيمة الحقيقية للمنتج من خلال مثل تلك العروض- كل هذا، يشجع على سرقة البضائع!
أصبح من المهم جدا أن ندرس أثر معطيات الحضارة الغربية ومنتجاتها التكنولوجية والتي بات واضحا أن توجهها الذي لا جدال فيه هو الإتاحة المطلقة لإمكانية الإشباع وتعظيم المتعة في كل شيء وفي كل اتجاه إضافة إلى نزع القداسة لا فقط عن المستهلَك من البضائع وإنما أيضًا عن المستهلِك من بني البشر وعن كل القيم التقليدية التي تحكم تعاملات البشر.....
ما هو أثر هذا التوجه الثابت لمعظم مفرزات الحضارة الغربية المعولمة... أثره على السلوك الإنساني وعلى الإنسان ككل متفاعل؟؟؟.
عبر عقود تغيرت عادات الإنسان في العالم الحديث تغيرت العادات التي نشأت في عصور القلة والنمطية والتي ربما أدرك جيلي أواخرها، وتغيرت عادات الإنسان في بلداننا بمعدل أسرع وبشكل واضح في السنوات الأخيرة,,... الناس حتى في القرى الكبرى أصبحوا لا يمشون من بيتٍ إلى بيت لأن "التُكْ تُكْ" أصبح متاحا ومنتشرا كالجراد (أو الصراصير) في شوارع القرى الكبرى....... الشارع الذي كنت منذ سنوات تصاحبه وتشعر بالألفة معه لم يعد كذلك فكل شيء فيه يتغير على مر الشهور وباضطراد وتلاحظ اختفاء المحال الصغيرة وانتشار الأسواق المركزية.... الناس الذين كانوا يتزاورون في القرى أصبحوا غالبا خلف الشاشات منفردين كلٌ في بيته، فأما الجيل الأكبر فخلف شاشات التليفزيون وأما الجيل الأصغر فخلف شاشات الإنترنت أو الفيديو جيم أو غيره، إذا تغير كل هذا وكاد التفاعل الاجتماعي أن ينحصر في تبادل النفع المادي ألا نتوقع تغيراتٍ أعمق؟
ألا يمكن أن نسأل: هل القيم والمبادئ التي تشكلت في عصور القلة والنمطية تصح الآن في عصر الإتاحة الملحة غير المشروطة؟ "غير المشروطة بغير القدرة على الحصول عليها -بالمال أو بغيره!-؟؟" ألا يستدعي الأمر دراسة ولو حتى من باب إدراك الفتنة ودراستها؟ تساؤلات وتساؤلات تشغلني كثيرا هذه الأيام وأعد بدراستها...... وأنتظر مشاركاتكم فيها.
اقرأ أيضا:
منتدى حياتنا: دع ألف زهرة تتفتح / لبنان الجميلة مرة أخرى 2008 (2)